لكلّ أمّة مُقدّساتُـها، ولكلّ شعب مرجعياتُه الدينية والأدبية، وحينمـا تُـنْـتَـهَـكُ شعائر بلدٍ ما، يَهبُّ جميع أفرادِ الـمجتمع للدفاع عن خصوصيات هُوّياتهم.
والـمجتمعُ الـمغربـي، يَنُصُّ دُستوره أنَّ دينَه هو الإسلام. ومصادرُ الإسلام الأصلية: القرآن الكريم، والسنة النبوية، اللذان بهمـا قِوام الاستقرار والعيش بالـمغرب.
وقد بدأنا نسمع في الـمغرب، بين الفينة والأخرى، مَنْ يتَعَرَّضُ لكلام خير البرية، نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، بالاستهزاء والتنقيص، ووصف كلامه الشريف بالإرهاب، وآخر يطعن في عصمة الأنبياء، ويقول صراحة: “النبي محمد له أخطاء بشرية كثيـرة”. وهذا من صريح إهانة معتقد الـمغاربة جميعاً، حتى خرج على الـمغاربة كاتب أول حزب، فَـذَكَرَ مَا ذَكَـرَ مـمّـا تناقلته الصحف وتداوله الإعلام مـمّـا له علاقة بالإرث في القرآن الكريم.
ونحن نخالف، على وجه التفصيل، ما ورد في كلام “أبو النعيم” من مزالق، إلا أنه في الـمقابل، “لشكر” وقَعَ أيضاً في انزلاق، حينمـا ولَجَ مـجـالا معرفياً له رجالاته.
والفقهاء الـمغاربـة، منذ القديم إلى اليوم، ليس من مناهجهم مهاجمة الـمُـخـالف، إلا إذا استباح الدخول إلى مجال التشريع الإسلامي، بِمَسِّ عقيدة الـمسلمين، والطعن في مقدساتهم.
وهذا لا يعني أن “الفقهيات” دائرة مغلقة خاصّة بالفقهاء، بل من كانت له أهلية علمية وأكاديمية، له الصلاحية في تناول الـمسائل الفقهية والدينية، من وجهة نظر مختلفة، لأن في هذا إغناءً للدرس التشريعي الإسلامي، ودَفعاً بالفقهاء للاجتهاد، وتوضيح الصورة حسب الـمستجدات العلمية، بالردّ والـمناقشة.
وهذا باب من أبواب الاجتهاد، مثل ما قام به الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه “فهم القرآن” الذي طرح فيه تصورات معاصرة بطريقة جديدة، ولم يلق كتابه ردود فعل سلبية، إدراكاً من الفقهاء أن كتابه هذا يمثل بعداً فكرياً، وليس سياسوياً وشعبوياً.
ولم يزل الفقهاء الـمغاربة منذ القديم إلى اليوم يؤمنون بحرية الآخر.
وما من شك أن تصريحات “أبو النعيم”، تُدْرِجُهُ ضمن السلفية الـمغربية الـمحافظة، وبالـمقـابل تصريحات “لشكر” تُقْحِمُهُ في السلفية الثقافية الغربية الإقصائية، التي لا تراعي مشاعر الـمسلمين.
ألا يعلم أولئك الذين يضعون “الـمقدّس” على طاولة المناقشات، أنهم يفتحون نافذة خطيرة، تعدّ جَرَاءة على تناول مختلف المقدّسات الدينية والوطنية بالجدال.
إن النقاش في موضوعات: اللغة العربية، والأمازيغية، والتشبّـت بالـمَلَكية نظاماً ، والوحدة الترابية الـمـتمثلة في مغربية الصحراء، ليس مستساغاً ألبتة الكلام حولها بطرقٍ فجّة ومبتذلة، لأن هذه الـمقدّسات مما أجمع عليها الـمغاربة قاطبة عبـر استفتائهم لدستورهم.
إذن فالـمقدسات الدينية والوطنية في نظر الدستور سواء، لا ينبغي الـمساس بها.
وبخصوص التحريض، فإن الفريقين كليهما يدعوان للتحريض ف”أبو النعيم” بعباراتـه، يمكن أن تُدْرَجَ في إطار ما يسمّى ب”العنف اللفظي” وكلام “لشكر” أيضاً هو تحريض وإقصاء، وانتهاك لمشاعر المسلمين، وعدم احترام مقدساتهم، ومحوٌ ممنهج للذاكرة المغربية، الشيء الذي أسقطه عنوة أو سهواً فيما يسمّى بـ “العنف الـمركّب”.
وتجدر الإشارة إلى أن القيادات الكبيرة في الأحزاب التقدمية بالمغرب لم تُقْحِمْ نفسها في هذا الصراع رعاية لشعور الـمغاربة الديني، ولم تتخذ من الدّين مطيّة لخطاباتها السياساوية، إيماناً منها بوجود الـمؤسسات الدينية الرسمية الـمؤهـلـة لتدبير الشأن الديني.
وسكوت هذه الـمؤسسات الدينية، في نظري، على هذه الحادثة ليس له إلا تفسير واحد وهو أن تصريحات “أبو النعيم” مجرّد ردّ فعل، لا ينطوي على دعوة للتحريض، بل هو من النقاش الديني.
كمـا أن مصطلح التكفير، حينما يُسْتَعمل في الـمجال الديني والفقهي، فالـمراد به “كفر الجحود” مثل العصيان أو الفسق، و”كفر النعمة”. ويراد في الثقافة الشعبية الـمغربية “كافر بالله ” أحياناً، “قاسٍ جٍدًّا” مثل بعض العبارات النمطية التي تجري على ألسنة عامّة الشعب دون قصدٍ لمرادها الحقيقي.
وترجمات القرآن الكريم باللغة الفرنسية تترجم أحياناً “الكافرين بــ Les mécréants” وأحيانا أخرى “Les négatifs ” على حسب اختلاف السياق.
فالحديث النبوي الصحيح: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تَرَكَهَا فقد كفر»، لم يفهم الأئمة الفقهاء الكبار مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم الكفر الوارد في هذا الحديث أنه الكفر الـمخرج عن الـملّة، بل اعتبروا تارك الصلاة عاصياً، فاسقاً، لعدم طاعة ربه، الذي خلقه فأجازوا زواجـه حـيًّا، والصلاة عليه ميّتاً، وأعطوه حقّه في الإرث بصفته أنه مسلم، لأن من عقيدة الـمسلمين الـمجمع عليها عدم تكفير الأشخاص بعينهم وذواتهم. ولكن هل يـحقّ وصف بعض الكلام بأنه موجب للكفر، لـمـا فيه من خروج عن الثوابت القطعية؟ مع أنه لا يفيد تلقائياً كُفْرَ صاحبِه.
لأن الهيئة الـمخوّلة في تاريخ الإسلام لإطلاق لفظ الكفر الـمخرج عن الـملّة هي القضاء، لأن حكم القاضي ملزم ونـافـذ، بخلاف فتوى الـمفـتي التي لا تلزم إلا صاحبها.
وما يُداَر في كلام الفقهاء قديـمـاً وحديثاً مِن استعمال لفظ الكفر، فالـمراد به كفر الجحود، وكفر النعمة لا غير.
والفقهاء الـمغاربة كانوا ولا يزالون يصرّحون بأن الربا حرام، والخمر حرام، بالرغم من فشو المعاملات الربوية، وشيوع شرب الخمر، وهذا لا يعني تكفير الـمرابي ولا شارب وبائع الخمر، مـمّـا يؤكد أن فقهاءنا واعون بقدسية النص الشرعي وحُرمته من جهة، وتحمّل الـمسلمين الـمخالفين مسؤولياتهم من جهة أخرى.
وبقدر ما يستهجن الباحث، هذا الـمستوى من السجال، يأسف بإحالة هذه الحادثة على القضاء، لأنه يذكّرنا بتاريخ مظلم ضارب في القِدم، يُـجَـرُّ فيها أصحاب الرأي المخالف من الفقهاء إلى الـمحاكمـات، مع أنه لو بقي الأمر محصوراً فقط على الـمشهد الثقافي، لكان حِرَاكــاً فكريـاً مُنتجاً، يتبادل فيه الرأيُ بالمخالف، ويكون البقاءُ للأصلح، مع أنه لم يجرؤ أحدٌ بالمغرب على طلب إحالة السياسي الـمتدخل في الدّين على القضاء، كمـا هو معمول به في بعض الدول الأخرى.
ألم يكن الأجدى أن لا تُـجَـرَّ البلاد إلى هذه القضايا في وقت، ما أحوج السياسي أن يطرح القضايا المجتمعية الـملحة النافعة للمواطن في ويومه، والتي تحسّ بنبض الشارع مثل: الـبـطـالـة، والأمراض، والتقاعد، والسكن، ورفع الأسعار، والـمخدّرات… وهذا هو المجال الطبيعي للسياسي.
وما أليق بالفقيه، أن يُوَجِّهَ هِـمّـتـه إلى إحياء قِـيَمِ الإخاء، والـمساواة، والعدالة الإجتمـاعية، مـمّـا يُـبـيّـن بجلاء وجود تشويشٍ في الرؤيـة من حيث ترتيب أولويات الفقيه والسياسي على السواء، الشيء الذي يدل على عدم احترام “ثـقـافـة الـحدود” عند السياسي والفقيه.
ألـم يأن للمثقفين بالـمغرب، بمختلف أطيافهم، أن يعملوا جميعاً لخدمة وطنهم، بعيداً عن ثقافة الإقصاء، والتصنيف، وتصيّد الهفوات.