خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله
بقلم: برعلا زكريا
في أتون معركة الحياة، ووسط صراعات لا تنتهي، يجد الإنسان نفسه محاصرا بسلاسل من القيود، بعضها مرئي وبعضها خفي. تأتي بأشكال شتى، من قيود طبيعية لا مهرب منها، إلى اجتماعية يفرضها العيش المشترك، وصولا إلى معيقات نفسية قد يكبل بها الإنسان نفسه أو تطاله على هيئة أمراض، لينتهي به المطاف محشورا في زنازن لا متناهية كبعوضة عالقة في خيوط عنكبوت، بالكاد يستطيع معها شهق الأنفاس.
ومن بين تلك القيود اليومية، ذلك السلك اللعين الذي ربطت به فكي عند طبيب الأسنان،كالمجرم المدان، سلك الأسنان.
لطالما اعتبرت سلك الأسنان رمزا لتلك الحواجز الخفية، قيودا تخفي وراء بساطتها صراعات داخلية عميقة. ففي كل مرة أمسك به، أشعر بثقل تلك القيود على نفسي، وكأنها تحيلني إلى أسير في معقل مشدد الحراسة، لا حول له ولا قوة.
ولكنني اليوم، وبعد صراع مرير مع سلك الأسنان، وما كان يصحبه من مشقة التردد على عيادة الطبيب لسنوات، حيث أن أقسى ما عانيت منه خلال رحلة تقويم الأسنان تلك الساعات التي ضاعت في صالة الانتظار، خلالها يسرح بك الملل إلى عوالم موازية، ترمي بعقلك إلى أبعد من الأجرام السماوية السابحة في الكون الفسيح.
وبعد سنوات المعاناة، تحررت أخيرا من قيود الأسنان، مع سراح مؤقت يلزمني بالتردد على سجان الأسنان بين الفينة والأخرى من أجل المراقبة والصيانة والتتبع.
سلك الأسنان الذي أمسيت إلى وقت قريب أعتقد أنه جزء مني ولن يفارق فكي حتى بعد أن يلف جسدي آخر لحاف.
لقد أدركت أخيرا أن تلك القيود ليست سوى وهم صنعه عقلي، وأنني أملك القدرة على التحرر منها متى شئت.
فكما أن سلك الأسنان يمكن فكه بسهولة، كذلك فإن بعض قيود الحياة قابلة للكسر.
فما هي تلك القيود التي تعيب حريتنا المطلقة ؟
هي قيود طبيعية مثل الحاجة إلى الطعام والنوم والاستشفاء بعد المرض، وقيود اجتماعية مثل تقاليد المجتمع وقوانينه والدوام اليومي والأعباء والمسؤوليات، وقيود نفسية مثل الخوف والشك واليأس.
ولكننا، كبشر، نتطلع دائما للتحرر، على الرغم من أن بعض القيود نختار الرضوخ لها بإرادتنا. بل من الفلاسفة والحكماء من ربط السعادة بالحرية، ولعل أول خطوة في مضمار البحث عن جائزة السعادة بعد التغلب على القيود تبدأ بكسر أصفاد الخوف بداخلنا.
ومن سخرية القدر أن الإنسان يكافح طوال عمره القصير من أجل بلوغ لحظات يخال فيها نفسه أخيرا قد تحرر، كالأجير الذي يكد في العمل أربعين حولا إلى حدود الستين من عمره لعله يرتاح بعد تقاعده دون أن يضمن بقاءه على قيد الحياه من أجل بلوغ هذا الهدف ! وأبلغ ما يعبر عن هذه الحقيقة ما ورد في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قوله: “ما لي وما للدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”.
حياتنا القصيرة التي تشبه ومضات البرق نسعى خلالها للتحرر وتحذو بنا الرغبة في التخلص من القيد إلى المواجهة والابتكار والإبداع.
هذه الرغبة الجامحة في الحرية قد تفسر نشوب الحروب، والبحث عن إكسير الحياة في سعي حثيث للتغلب على الموت أو على الأقل تأجيله قدر الإمكان. كل ذلك في سبيل الحرية والتي قد تكون فكرة سقطت إلينا من العوالم الخفية كما سقط الحديد من السماء، لذلك يقولون أن الحرية لا تقدر بثمن.