بقلم: طه لمخير
وأضحك من هذا الهراء.. من الخطاب الذي يريد أن يفهمنا بأننا لا نفهم شيئا، وأنهم وحدهم من يخبرون الأسرار، ووحدهم من يعرف مكونات الحكم وتوابله الخافية، ووحدهم من يحملون هَمّ النضال وهَمّ مستقبل الأجيال، وهُم فقط من يدركون الحلول السحرية الشاملة، ووحدهم القادرون عليها، ووحدهم الوطنيون الذي يملكون صك الوطنية، ووحدهم من يملكون أختام النضال، ووحدهم الشجعان المهابون الذين لا ينحنون، ووحدهم من يركب الخيول الأصيلة وغيرهم يركب أحصنة الخشب، أقلامهم شعلة من لهب، ضمائرهم من معدن الذهب، نقدهم هو النقد، والباقي خربشات، صوتهم هو الصوت، وصوت الباقين موات ، ويريدون أن يحشروا في أذهاننا كرها وجبرا أننا نعيش تحت حكم ملالي طهران وسيوف هولاكو مسلطة على رؤوسنا، وغدا يوم تنفيذ عقوبات الإعدام.
في خطاب الإسلاميين الذين يحترفون المعارضة ومن ينضم إليهم، كثير من الانحرافات المقصودة، وعدم الاكتراث في استعمال الألفاظ القدحية والتبخيسية التي يراد بها الاستعداء والتحريض الذي يبلغ حد الرغبة في التثوير أكثر من كونها تعبيرات نضالية و إصلاحية.
وهم إذ ينطلقون من مرجعية إسلامية ترى في الديموقراطية جبتا وطاغوتا بتعبير الأيديولوجيا التي دمغت الأنظمة السياسية الوضعية بوسم الكفر والجراءة على الإرادة اللاهوتية، وتصوُّرها الذهني للحكم يقوم على نظرية الخلافة العظمى التي يمثلها حاكم مطلق يتمتع بتفويض إلاهي، يطبق الشريعة دون اعتبار لاختلاف السياقات الزمنية والتاريخية، ويعمل بعد توحيد الأقطار المسلمة والقضاء على الدولة الوطنية، على استئناف حركة الجهاد باعتبارها أسمى غايات الدولة الإسلامية وأقدس مهماتها الحضارية.
هناك فصل معرفي وطبقي يمنع من تلاقي خطابهم الأعلى مع الأدنى، يحرصون على صيانته، يتيح لهم اللعب على الحبلين ويجنبهم الوقوع في صدام مباشر مفضوح مع قواعدهم، وما حدث مع ماء العينين كان استثناء نادرا، حيث وقفوا عراة أمام قواعدهم، رغم أن وجودهم في صميم النظام النيابي الوضعي بحد ذاته يعد خلعا لحجاب الحاكمية ورقصا أمام طواحين الديموقراطية.
لكن العامة عادة يسهل عليها تمييز الازدواجية على مستوى الرموز السطحية الواضحة، مثل خلع الحجاب أو ممارسات أخرى لا تقبلها الأرثوذكسية الأخلاقية، لكنها لا تستطيع تلمّح عدم الانسجام بين طبيعة العمل في مؤسسات الدولة الديموقراطية ومبادئ نظرية الحاكمية التي تتعارض جملة وتفصيلا مع مؤسسات الحكم المدني.
وحتى ندرك الفرق بين نظام الحكم المرن والمعتدل في المغرب -الذي يتيح حياة سياسية تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية في التسيير وتدبير الشأن العام، وحيوية حزبية مبنية على التنافس، ومساحة واسعة من الليبرالية وحرية التعبير، سواء في الصحافة الرسمية أو الموازية، الورقية أو الالكترونية -وبين طبيعة الاستبداد الذي يشيرون إليه في مرافعاتهم الحقوقية، ومجازفاتهم المجحفة، ينبغي لنا أن نتبين بعضا من خصائص الأنظمة الاستبدادية الجوهرية، الكلمة الدائرة على لسان القوم.
في السنوات الأخيرة شهدت الأوساط السياسية والأكاديمية إحياء واهتماما عالميا لإرث القاضي والمنظر النازي كارل شميت Carl Schmitt ، الذي توفي عام 1985. طائفة تجمع خليطا من علماء القانون الصينين، وقوميين روسا وأمريكيين، وألمان من اليمين المتطرف، وإنجليز وفرنسيين من اليسار الراديكالي، كلهم وجدوا ضالتهم في أعمال المفكر النازي الذي كان درة تاج المنظومة القضائية للرايخ الثالث.
في الصين تقوم شهادات على أن خبراء القانون في جامعة بيجين استندوا ا إلى فكر كارل شميت لتبرير سيطرة الحزب الشيوعي الحاكم، ووجدوا فيه مادة الجدل ضد المبادئ الديموقراطية والقيم الغربية.
هذا هو نمط الاستبداد وروحه ومسلكه، وتلك هي بعض أعراض النظم الشمولية ومميزاتها، وهو لا شك مسلك مناقض للمسلك الليبرالي التقدمي للملكة التي تنهج نسقا متزنا في الحكم منفتحا على المكونات الثقافية والاتجاهات السياسية المختلفة، بل وتشجع
المجتمع السياسي والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني على الإسهام في البناء الديموقراطي، والمشاركة في النقاش العمومي لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وتحديث العقليات الرجعية.