شهد المغرب منتصف هذا الأسبوع اضرابا عاما دعت إليه المركزيات النقابية الرئيسية في البلاد و دعمته تنظيمات سياسية من اليمين و اليسار بالإضافة إلى تنظيمات إسلامية اختلفت الناس حول النجاح العددي للأحزاب، ففي الوقت الذي أكدت فيه المركزيات الداعية إلى الإضراب أن النسبة تجاوزت 83%، نبهت الحكومة إلى أن الإضراب لم يتجاوز 40% لكن الجميع أجمع على أن الإضراب العام مر بدون حوادث تذكر، كان إضرابا حضاريا، الحكومة احترمت حرية المضربين و المضربون احترموا حرية العمل.
الإضراب العام كان إضرابا مطلبيا بآفاق مطلبية واضحة خاصة بعموم الأجراء و في مقدمتها إصلاح أنظمة التقاعد.
نجاح الإضراب، بعيدا عن الجدل حول الأرقام، هو نجاح لا غبار عليه، إنه إضراب مطلبي بإمتياز بدأ في الساعة التي حددتها المركزيات وانتهى في الأجل الذي حددته، تحكمت النقابات في الإضراب من البداية إلى النهاية، نجاح من هذا النوع لم يكن ليمر بدون أن يثير حنق الذين يريدون من النقابات أن تسلمهم رقابها و أن تسوق الأجراء كالقطيع ليقرروا في أفقها، أقلية بارت و اختار الشارع أن يوليها ظهره.
فبين اضرابات 23 مارس 1965 و 20 يونيو 1981 و 14 دجنبر 1990 و إضراب 29 أكتوبر 2014، تبين بالملموس أن النقابات وصلت إلى مرحلة الرشد في تعاطيها مع الملفات المطلبية للطبقة العاملة.
الأقلية التي تعيش على هامش المجتمع لم يعجبها نضج النقابات و تريد اليوم من النقابات أن تتجاوز تقاليد العمل النقابي التي راكمتها على امتداد سنوات الفعل، و أن تحتج و تضرب كما يحصل في أي بلد ديمقراطي وأن تحول مخزونها الجماهيري لتحتل الشوارع وتضرم النيران و تخرب المتاجر والأبناك حتى تستعيد رضى الذين "فاتهم الكار" و"انقطع عنهم الطمت" وأصيبوا بالعقم الجماهيري، لأن بالنسبة لهم الإضراب العام يعني كما كان في الزمن الذي ولى اعتقالات، قتلى وجرحى، تخريب ممتلكات، وأن تحتل صور المضربين وكل الذين لا شغل لهم كل الشاشات العالمية ليتطوع أصحاب التعاليق المدفوعة الأجر إلى الترويج لسقف لا يريده الذين خرجوا و ليتحولوا في الكواليس إلى بديل بأفق لا تريده الناس، إنها الأقلية التي تريد من الناس أن تدخل السجون من أجلها، و أن تموت من أجلها و تحرق سيارات الناس و تخرب ممتلكاتهم من أجلها حتى يرضوا على النقابات و يستأترون هم بالساحة ليقبضوا الثمن.
إنها المرارة التي يحس بها أشباه الثوار كما عبر عنها أحد كتبة القسم العربي بإذاعة هولندا الذي اعتبر أن صوت النقابة غاب في اللحظات التاريخية التي عاشها المغرب، و كان آخرها لحظة "الربيع العربي" عندما اختارت النقابات الإصطفاف إلى جانب السلطة ضد الشعب، أي أن الذين خرجوا إلى شوارع المغرب في 2011 هم الشعب، و وحدهم الشعب، و الذين لم يخرجوا ليسوا من الشعب، و أن النقابات التي تعبت حتى تبني إطاراتها النضالية كان عليها أن تضع رقاب جحافلها بين أيدي صعاليك الأحياء و سادتهم من الذين أصابهم العقم ليقرروا في مصير المغرب.
وما دام أن النقابات اختارت ما اختارت خلال "جدبة فبراير" فقد أصبحت في عرف صاحبنا (الذي تحول إلى كاتب هولندي) نقابات مصطفة إلى جانب السلطة قبل أن يخلص إلى أنه لا مقارنة اليوم بين مآل العمل النقابي في بلد مثل المغرب تحولت فيه النقابات إلى مرتع للريع و الفساد و الزبونية و بين تونس التي وقفت نقابتها العتيدة خلف ثورة شعبها حامية لها وحكما بين مكوناتها و ضامنا لإستمراريتها.
ما يغري في هذه الخلاصة هو الذاكرة المتقوبة للذين يتعاملون اليوم مع أوضاع تونس، فنقابة الحزب الوحيد الذي حكم تونس منذ أيام الراحل بورقيبة الذي خلفه زين العابدين الذي سفره قائد أركان الجيش خارج البلاد و دبر مرحلة انتقالية لم تضع بعد أوزارها، رغم أن البلاد تخلصت من بن علي منذ أكثر من ثلات سنوات.
فلعلم صاحبنا فالإتحاد العام لعمال تونس لم يدخل يوما واحدا في ثورة الياسمين و لم يعلن لا إضرابا عاما و لا خاصا قبل أن يتم تسفير بن علي، و لم يتحرك يوما ضد بن علي منذ أن اعتلى قمة السلطة بشهادة طبية حول الحالة الصحية للراحل لحبيب بورقيبة، و القول اليوم أن الإتحاد العام في تونس وقف خلف الثورة الشعبية هو تزوير للتاريخ، فالمركزية النقابية الوحيدة لم تدخل على الخط إلا بعد أن تم تسفير بن علي، و لفرض التوازن في مواجهة حركة النهضة التي تسربت بشكل سريع إلى دوائر الدولة، فكان لا بد من تحريك الشارع النقابي لملئ فراغ انهيار حزب التجمع قبل أن يستعيد أنفاسه تحت راية نداء تونس.
والحديث اليوم عن ثورة في تونس وإضفاء نوع من الطهرانية على بعض مكونات الصف التونسي ينم عن بلادة في قراءة الأوضاع أو تجني أعمى على النقابات العمالية المغربية التي لا يلتقي أفقها السياسي و بالمطلق مع " جماعة فريدوم ناو" و الخلايا النائمة ذات التمويل الدانماركي.
فإذا كان أفق الجماعة إياها يتطلب إضرابا عاما يسقط فيه الجرحى و القتلى و تتشرد الناس و تضيع ممتلكاتهم، فالأولى أن يضحي في سبيله أصحاب الجماعة أولا، و من ورائهم صعاليك الأحياء و مساخيطها الذين أعياهم المشي في شوارع المغرب في ظل عدم مبالاة الشعب و قواه الحية التي تناضل حسب أفق حددته منذ الزمن الأول و لا تريد أن تبيع نفسها للشيطان حتى يسود في المغرب الهامشيون و المهمشون الذين لا يؤمنون بأي شيء، يرفضون كل الموروث المشترك و يتمنون أفقا يضيع معه المغرب و المغاربة.
جوهر إضراب 29 أكتوبر كان هو إصلاح صناديق التقاعد، الحكومة تريد إصلاحا حتى لا تفلس الصناديق وتضيع على الأجراء حقوق تقاعدهم، و النقابات تريد إصلاحا يحفض مكتسبات الأجراء و لا يحملهم الوزر المالي لإنقاذ الصناديق من الإفلاس، فكيف لعاقل كان نقابيا أم سياسيا يريد ضمان استمرار استحقاق تعويضات تقاعد الناس، بعد خريف عمرها أن يستلم و يسلم رقبته و مصيره للذين يريدون أن يحرقوا الأخضر و اليابس لا ليضيعوا مصير المتقاعدين وحدهم بل حتى شغل و قوت الأجراء منهم، و أمل الحصول على الشغل للذين لا شغل لهم.
إنهم يريدون أرضا محروقة و من لم يجاريهم فهو فاسد و زبوني و ريعي، لكن الرأي العام يعرف الرجال و معدنهم، فالذي دخل الزنزانة و ظل يبكي حتى لا تبقى مقفلة و حتى يعود لحضن أهله، لا يمكنه أن يتجرأ و يدعي الإستئساد أمام الذين ضحوا حتى يصبح من حقه أن يختط الحروف و يكتب المقالات بعقلية الأمنيزيا، و يمحو من تاريخ المغرب تضحيات الرجال من أجل الديمقراطية و أخواتها عندما كان و أشباهه موظفين إعلاميين لدى الدكتاتورية العربية داخل وكالة جانا الليبية وغيرها من وكالات أنباء مُصَادَرَة كل شيء بإسم الصمود و التصدي.