العام الثقافي قطر-المغرب 2024: عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية
بقلم: سامي المودني (العربي الجديد)
تتعرض العديد من البلدان بشكل متواتر، لانتقادات من طرف المنظمات الدولية غير الحكومية أو الآليات الأممية الخاصة بحماية حقوق الإنسان. بدورها تلجأ حكومات هذه الدول إلى انتقاد المؤسسات الراصدة “لانتهاكاتها وتجاوزاتها الحقوقية”. انتقاد يصل في بعض الأحيان إلى اتهامات بخدمة “أجندات أجنبية”، أو بالاعتماد على معطيات تفتقد للدقة والمصداقية، أو بعدم مراعاة خصوصيات هذه البلدان، بحجة أنها لا تتلاءم مع كونية حقوق الإنسان.
دفوعات الدول المعنية بتقارير وضعية حقوق الإنسان، لا تلقى في الغالب ترحيباً وقبولاً، سواء من الجمعيات الوطنية أو من المنظمات الدولية غير الحكومية. في المقابل، يمكن أن يتساءل المواطن المتتبع للشأن العام أو الباحث في المجال: ألا يجدر بنا أن نأخذ بعض الاتهامات الموجهة لمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان على محمل الجد؟ ألا يجب أن نخضع المعطيات الواردة في تقاريرها وبياناتها للتحقق والاستقصاء لكشف خلفياتها؟
إن طرح هذه الأسئلة ومحاولة إيجاد أجوبة لها يبقى عملاً مشروعاً للصحافي الاستقصائي، والباحث المستقل عن مختلف مراكز النفوذ. هذا العمل لا يعني أبداً السقوط في تبرير أي انتهاك أو تجاوز كيفما كان نوعه، أو تبني “سردية وطنية”، في مواجهة الانتقادات التي تطاول وضعية حقوق الإنسان في بعض البلدان واعتبارها استهدافاً لسيادتها.
من المستحيل فحص وتدقيق كل التقارير ذات الصلة باحترام الحقوق والحريات الخاصة بكل دولة، في تحقيق صحافي أو مقال رأي. في المقابل، يمكن تقديم بعض النماذج، التي زاغت عن الحيادية والموضوعية الواجب التقيد بها في منهجية رصد الخروقات والانتهاكات الخاصة بكل دولة، بل اقترب بعضها في بعض الأحيان، من خدمة أهداف لا علاقة لها بمجال حقوق الإنسان.
“بيغاسوس”.. اتهامات بلا أدلة
تعد بعض التقارير، التي استهدفت المملكة المغربية، أمثلة صارخة في هذا الشأن. المثال الأول، يقودنا إلى صيف 2021، إذ كان المغرب ومؤسساته الأمنية عرضة لحملة إعلامية دولية منسقة. جزء غير يسير من الصحافة الفرنسية كان منخرطاً فيها بحماس منقطع النظير. صحف ومواقع رقمية وإذاعات وقنوات ببلاد الأنوار، اتهمت سلطات الرباط باستخدام برنامج “بيغاسوس”، للتجسس على صحافيين ونشطاء وقادة دول، وذلك بالاستناد إلى قاعدة بيانات مسربة وفرتها كل من منظمتي “قصص محظورة”(Forbidden Stories) و”العفو الدولية”.
المقالات الموصوفة بالاستقصائية لم تستوف الشروط المهنية المطلوبة في التحقيق الصحافي. كتابها لم يضعوا فرضيات، وإنما يقينيات منذ البداية، ولم يتحققوا من التسريبات عبر التقنيات الصحافية المعروفة في هذا الشأن. فلا نجد في هذه “التحقيقات الصحافية”، لا تحليلاً للبيانات، ولا تقاطعاً للمصادر والشهادات، ولا إبرازاً للأدلة المعتمدة على الخبرات العلمية أو التقنية اللازمة.
وكان من الواضح في هذه المقالات عدم وجود أدلة دامغة يمكن الاستدلال عليها لتوجيه اتهامات بتلك الخطورة للمؤسسات الأمنية المغربية، سواء عبر خبرة تقنية لا غبار عليها، تبين أن مصدر “التجسس” المفترض على هواتف الشخصيات الواردة في التسريبات، قادم من خوادم تابعة لمؤسسات رسمية مغربية، أو/و وثيقة تثبت تعاقداً موقعاً بين الشركة مالكة لتطبيق “بيغاسوس” وممثل عن الدولة المغربية…
كل ما سبق، دفع إعلاميين مغاربة- بمن فيهم أشخاص وردت أسماؤهم في لائحة التسريبات قبل حذفها-، إلى انتقاد ما ورد من ادعاءات لمنظمتي “قصص محظورة” و”العفو الدولية”، معتبرين إياها مجرد استهداف للمؤسسات الأمنية للبلاد ومحاولة لتشويه صورتها، لأهداف خفية.
إن جزءاً من الصحافيين الفرنسيين، الذين نقلوا ما ورد في التسريبات، يقيمون الوضع في المملكة المغربية، انطلاقاً من مرجعيات مختلفة، لا تنتصر بالضرورة للقواعد المهنية ولأخلاقيات الصحافة. فالبعض منهم، ينطلق من خلفية استشراقية يمارس عبرها “تفوقا غربيا” لإعطاء الدروس للمستعمرات السابقة لبلادهم. والبعض الآخر سعى من خلال نشر التسريبات إلى تشويه صورة المؤسسات الأمنية المغربية، التي تحوز يوماً بعد يوم اعترافاً عالمياً بكفاءتها، لدورها المحوري في محاربة نشاط الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة العابرة للقارات، وهو الدور الذي أشادت به أجهزة استخباراتية أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.
فريق ثالث من وسائل الإعلام والصحافيين المشار إليهم، لم يخفوا يوماً مساندتهم لأطروحة جبهة “البوليساريو” الانفصالية في النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. وبالتالي، فحديثهم عن أي ملفات مغربية ذات صلة باحترام حقوق الإنسان، بما فيها قضية “بيغاسوس”، سيكون فاقداً للمصداقية، لأنه سيضعهم في موقع نشطاء سياسيين يخدمون أجندة طرف معين في قضية إقليمية، خصوصاً وأن الشعب المغربي يعتبر ملف وحدته الترابية قضية مقدسة.
لا يمكن لمن ينحاز إلى أطروحة تقسيم المملكة المغربية، أن يكون موضوعيا ومحايدا، عند تناوله لقضايا ذات صلة بالشأن الحقوقي المغربي، سواء كان صحافيا أو فاعلا حقوقيا أو منظمة دولية غير حكومية أو مقررا أمميا.
وهذا يقودنا إلى نماذج وأمثلة أخرى، اتخذت فيها حقوق الإنسان ذريعة أو خلفية، من أجل تمرير مواقف سياسية مناوئة للمغرب في قضية وحدته الترابية. فقد ارتفعت وتيرة التقارير والبيانات “الحقوقية”، منذ تحقيق المملكة لعدد من الانتصارات في قضية الصحراء المغربية. انتصارات تجلت في تأمين القوات المسلحة الملكية لمعبر “الكركرات” يوم 13 نونبر 2020، واعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ودعم دول مجلس التعاون الخليجي للرباط في هذا النزاع المفتعل، وصولاً إلى قرار مجلس الأمن 2602.
تقارير منحازة
إن كان من واجب المنظمات الدولية غير الحكومية والآليات الأممية المكلفة بحقوق الإنسان، رصد الانتهاكات والتجاوزات، إلا أن هذه العملية يجب أن تخضع لمنهج محايد ودقيق، مع تجنب التضخيم المؤدي إلى توظيف المعطيات خدمة لأجندات سياسية لطرف معين. فلا يمكن مثلاً لمسؤول في مؤسسة حقوقية، أن يكون موضوعياً عند تعاطيه مع قضية ذات صلة بملف الصحراء المغربية، وهو يتخذ موقفاً مسبقاً من النزاع، ويعارض سيادة المملكة على أقاليمها الجنوبية.
في هذا الإطار، يمكن تقديم مثالين بارزين. الأول، يخص ورقة بحثية منشورة بالموقع الرسمي لمنظمة العفو الدولية، يوم 30 نونبر/تشرين الثاني 2020، بعد عملية تحرير معبر “الكركرات” الرابط بين المغرب وعمقه الأفريقي. وكان من الواضح ابتعادها عن التوازن في نقل المعطيات، وضعف في توثيق الانتهاكات المزعومة، وانحياز فاضح للأطروحات التي تنادي بها جبهة “البوليساريو”، المدعومة من طرف النظام الجزائري، وهو ما لا يتلاءم مع المرجعيات الدولية المعتمدة في مجال حماية حقوق الإنسان والنهوض بها.
المثال الثاني: يتعلق ببيان صادر يوم 01 يوليو/تموز 2021، عن السيدة ماري لولور، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بوضع المدافعين عن حقوق الإنسان، تضمن عدداً من الاتهامات لسلطات الرباط بخصوص وضعية حقوق الإنسان في الصحراء، بالاستناد فقط إلى معطيات المساندين لجبهة “البوليساريو” دون غيرها، مع تجاهل تام لوجهة النظر الرسمية، أو لرصد الانتهاكات والتجاوزات الذي تقوم به الجمعيات الوطنية المشتغلة في مجال حماية حقوق الإنسان، أو التقارير الصادرة عن اللجان الجهوية التابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
هذا النوع من الممارسات، التي تقدم عليها السيدة ماري لولور، لا تحترم ولايتها الأممية، وتشكل ضربا واضحا لمدونة “قواعد السلوك لأصحاب الولايات في إطار الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان”، وبالخصوص معايير “الحياد والموضوعية واللاانتقائية والتوازن”، المنصوص عليها في كل من المادة 3 الخاصة بالمبادئ العامة لسلوك المقررين الأمميين الخاصين، والمادة 6 المتعلقة بواجباتهم، والمادة 8 ذات الصلة بمصادر المعلومات، والمادة 12 التي تنص على ضرورة عدم مساس الآراء السياسية الشخصية للمقررين بتنفيذ مهمتهم، والمادة 13 الخاصة بالاستنتاجات والتوصيات والتي تشدد على ضرورة الإشارة “بنزاهة إلى الردود المقدمة من الدول”.
إن التصريحات الصادرة عن مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بوضع المدافعين عن حقوق الإنسان، تنتهك أيضا التزامها الرسمي بضرورة تأدية واجباتها والاضطلاع بمهامها “من منطلق الحياد والإخلاص والضمير والاضطلاع بمهامها على نحو يتوافق تماماً مع شروط ولايتها، وميثاق الأمم المتحدة، ومصالح الأمم المتحدة، “بهدف تعزيز وحماية حقوق الإنسان دون التماس أو قبول أي توجيه من أي طرف آخر أياً كان”.
ومهما كان حجم الاستهداف المعزول، الوارد في تقارير المنظمات الدولية غير الحكومية، أو من طرف بعض المسؤولين في الإجراءات الخاصة التابعة للأمم المتحدة، إلا أن هذا لا يعني تجميد التعاون الإيجابي والبناء، مع مختلف الآليات الدولية ذات العلاقة بحماية حقوق الإنسان.
فالهدف من المنظومة الدولية لحقوق الإنسان يتجلى في ترصيد المكتسبات المنجزة من جهة، ومعالجة النواقص التي ترصدها بموضوعية عدد من المؤسسات الدولية والجمعيات الوطنية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمغرب من جهة ثانية. مع العلم أن الآليات التعاهدية وغير التعاهدية التابعة لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، أولت اهتماما خاصا بالمملكة المغربية، بعد إقرار دستور 2011، باعتبار أنها يمكن أن تشكل نموذجاً استثنائياً يحتذى به في المنطقة، على مستوى الاستقرار السياسي والتناوب الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان في شموليتها وكونيتها.
لهذا، فرصد الخروقات والتجاوزات والانتهاكات، ليس بالضرورة عملاً عدائياً مدعوماً من الخارج، وإنما هو عمل تطوعي نبيل في مغزاه، يسعى لخلق توازن بين مؤسسات الدولة والمجتمع، شريطة أن يتم بأدوات حقوقية إصلاحية وليس عبر مواقف سياسية مغلفة بخطاب حقوقي.
لا شك أن المملكة المغربية، تظل نموذجاً استثنائياً في محيطها، على مستوى الاستقرار السياسي. وهو النموذج الحقوقي الذي يمكن ترسيخه بشكل أكبر من خلال عدد من الإجراءات،
فبخصوص الجمعيات الوطنية والمنظمات الدولية، وجب أولاً الاستمرار في التفاعل البناء مع توصيات ونداءات الجمعيات الوطنية العاملة في مجال حقوق الإنسان، وتحيين البنيات المؤسساتية من أجل الاستجابة لمطالبها.
وبنفس القدر الذي تقدم به الحكومة عبر قطاعاتها المعنية، تعقيبات على تقارير المنظمات الدولية غير الحكومية، يجب ثانياً الاستمرار في التواصل والتفاعل البناء معها.
وثالثاً، يجب عدم تجميد الحوار مع المنظمات الدولية غير الحكومية، مهما كانت مواقفها من قضايا المملكة المغربية، لأن هذا دليل على نضج البناء المؤسساتي الوطني وترسيخ لنموذجه الديمقراطي على الصعيد الدولي.
أما بخصوص الممارسة الاتفاقية، يجب تعزيز التفاعل مع المنظومة الأممية لحقوق الإنسان، عبر تفعيل التوصيات الصادرة عنها، والتي قبلتها الحكومة.
كما نؤكد على تقديم التقارير الوطنية الدورية للمنظومة الأممية لحقوق الإنسان في وقتها، وتدارك أي تأخير بهذا الشأن، فضلاً عن تعزيز المقاربة التشاركية مع المجتمع المدني الوطني في إعداد هذه التقارير، وفي التفاعل مع الآليات التعاهدية وغير التعاهدية التابعة لمجلس حقوق الإنسان بجنيف.
وكذا الاستمرار في توجيه دعوات دائمة ومفتوحة إلى المكلفين بولايات في إطار الإجراءات الخاصة من أجل القيام بزيارات للمملكة للمغربية، وتجاوز مختلف الإشكاليات المسجلة في هذا الصدد.