يخلد المغاربة وفي طليعتهم نساء ورجال الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير، يوم الجمعة 20 غشت الجاري، الذكرى 68 لثورة الملك والشعب المجيدة، التي تعتبر حدثا مشرقا سيبقى حيا في ذاكرة تاريخ الأمة ومحطة مهمة في جهاد العرش والشعب، من أجل الانعتاق والحرية ودحر الاستعمار الغاشم، كتتويج لمسار الكفاح الوطني.
وتبقى هذه المناسبة فرصة لاستحضار التاريخ الباسل لوجوه، سطرت فصولا من البطولات الخالدة من أجل الحرية والانعتاق ووحدة الوطن ومقدساته، من هؤلاء الذين صادقوا ما عاهدوا الله عليه، ابن خريبكة وورديغة المجيدة، أحد أبطال المقاومة، قلبي الميلودي بن محمد بن الغزواني، ولد سنة 1934 ميلادية 1353 هجرية بقبيلة المراهنة ضواحي خريبكة، أسر ولده على تربيته تربية حسنة وغرس فيه منذ الصغر كل خصال حب الوطن والوفاء إليه، ودفع به إلى التعلم حيت درس مرحلة الابتدائي بمدرسة “الماندوف” الوحيدة حينها بكل المنطقة، وكانت تدرس العربية والفرنسية، وهو ما مكنه من تنوع معرفي اضافه إلى التعليم التقليدي، وبعدها التحق بالمدرسة الصناعيــة “CAMUS MATHIEU” بالدار البيضاء، وهي والآن ثانوية “القسطلاني” المتواجدة بحي “مــارتيني” بـدرب السلطان الفداء، وحصل فيها على الشهادة المهنية في الكهرباء وهي من الشواهد العليا حينها، سهلت عليه العمل في شركة فرنسية متخصصة في حفر الأنفاق لاستخراج الفوسفاط بناحية حطان على بعد 15 كيلومتر من خريبكة.وكان العمل بمناجم بني عمار، نقطة تحول في حياته الجهادية، إذ مكنه من التعرف على عدة عمال وسكان من منطقة ببني خيران والنواحـي، من الذين يرفضون تواجد المعمر الفرنسي الذي ينهب خيراتهم، ومن هؤلاء أشخاص ينتمون إلى حزب الاستقلال فاقنعوه بالالتحاق بهم، ومن بداية المقاومة إلى نفي السلطان الشرعي للبلاد إلى يوم الاستقلال، سطر المقاوم قلبي الميلودي، إلى جانب رفاق الكفاح، الكثير من الأعمال البطولية التي خلدها لهم التاريخ.
فبعد نفي رمز الأمة جلالة المغفور له محمد الخـامس والأسرة الملكية، قررت جمع التنظيمات الحزبية والنضالية حمل السلاح ضد الاستعمار والخونة، فتقرر بالإجماع في اجتمـاع لمسؤولي حزب الاستقلال عن خريبكـة وبنـي خیران وایت عمار، جعل قلبي الميلودي، المسؤول الأول عن العمليات والتخطيط لها وتنفيذها، وهذا دفعه إلى العمل من أجل الحصول على السلاح فتحرك بشكل فردي إلى مدينة الدار البيضاء وضواحيها، واستطاع ربط الاتصال بعد جهد كبير ببعض الوطنيين، وبعد القسم على الإخلاص والوفاء للمقاومة والوطن والعرش بإحدى الأماكن السرية بدرب السلطان، أصبح يحصل منهم على الأسلحة، وكذلك من بعض التجار اليهود الذين كان يدفع لهم من ماله الخاص الذي كان يجيه من عمله ككهربائي وحيد حينها بالشركة الفرنسية التي كان يعمل بها، ويقوم بنقله وتهريبه وتسليمه لمسؤولين عن خلايا العمل المسلح بخريبكة ونوحيها معرضا نفسه لخطر السقوط في قبضة المعمرين، لكن ذلك لم يحدث بسبب خططه المحكمة. ومن العمليات كذلك التي قام بها ونجح من خلالها في الحصول على مجموعة من الأسلحة، اختراق مخازن عتاد القوات البحرية الاستعمارية ببوسكورة، بعد تخطيط ناجح وتنفيد مع مغربي كان يشتغل مع هذه القوات، وكذلك من التكنة الأمريكية بالنواصـر، بعد أن نجح في التغرير ببعض عناصرها، ولم يكتفي بالسلاح بل أصبح كذلك يزود رجال المقاومة بمواد تستخدم في صناعة المتفجرات. ومن ملاحم المقاوم الذي نستحضره في هذه الورقة، أنه كان واحدا من رموز ثورة بني خيران، التي اشتعل لهيبها في غشت سنة 1955 وخطط لها بطلب من رؤساء مجموعة من الخلايا السرية المسلحة، وعمل بمعيتهم في البداية على توعية ساكنة المنطقة عن طريق التواصل المباشر وعبر المناشر التي هي الأخرى استقدمها قلبي من الدار البيضاء، ودعوتهم إلى حمل السلاح في وجه الاستعمار ومحاربته بكل الوسائل المادية والمعنوية زيادة على تكوين المزيد من الخلايا بجميع الانحاء المجاورة، بعدها كان هؤلاء الرجال وغيرهم من المتشبعين بالإيمان وبروح المواطنة المغربية في اليوم الموعود والمتفق عليه، حيت تم تنفيد عدد من العمليات المسلحة، وفي نفس الوقت وتماشيا مع الخطط الموضوعة عمل قلبي الميلودي، على التواجد بمنجـم أيت عمار، وأقدم على قطع التيار الكهربائي عليه وعلى كل الناحية، كما عمل بمساعدة العمال على تكسير المعدات والآليـات وهو ما شل المنجم كليا وعزل المنطقة، لتشتعل معها المواجهات المسلحة التي قتل فيها 23 من الفرنسيين وسقط 40 شهيدا، وهب عدد كبير من الأهالي من أجل مساعدة المحاصرين داخل المنجم ومقاومة الاستعمار، وفي اليوم الموالي لهذا العمل البطولي أقدمت القوات الفرنسية على إطلاق النار على عدد من البدو العزل الأبرياء كانوا فقط على مقربة من المنجم فأسقطت 22 شهيدا بدون سبب يذكر، وبهذا يقول هذا المقاوم في مذكراته التي خلفها “أن قبائل بني خيران ابلـت البلاء الحسن فاحتلت من تاريخ المغرب صفحات ناصعة وكانت ثورة عظيمة توفرت أسباب نجاحها بتوفر أفراد الخلايا ورؤساؤهم علـى العزيمة والشجاعة”.
من عرفوا وعايشوا المقاوم الكبير قلبي الميلودي بن محمد بن الغزواني، شهدوا له بالشجاعة والإقدام على توجه ضربات للمعمر الفرنسي بدون تردد ولا تفكير في النفس سواء بشكل فردي أو مع خليته التي كان يرأسها أو من خلال التنسيق بين كل المنظمات السرية، ومدها بالمعلومات والخطط والدفع بها للقيام بعمليات فدائية، وبكونه كذلك كان مكوكي التحرك بين كل القبائل إلى درجة ضرب وتنفيد عمليات كبرى متفرقة في وقت متقارب حير المعمر، وتبقى ثورة يوم الأحد 21 غشت 1955 دليل خالد على ذلك، فبعد ليلة بيضاء قضها مع مجموعة من رؤساء الخلايا المسلحة متنقلين بين عدة نقط من أجل التنسيق لهذا اليوم الخالد، وكانت نقطة اللقاء الأخيرة منطقة سيدي الغزواني، ومنها توجه فجر يوم الملحمة رفقة أحد المقاومين إلى ناحية دوار البوجي، حيث كان في انتظارهم خمسة آخرين من خيرة رجال لمقاومة فعملوا جميعهم على إشعال النيران في المكاتب والمخازن الكبرى للخشب والشاحنات والسيارات و حطموا مركـز مـولـد الكهرباء آلات لحمل الفوسفاط من بوجنيبـة إلـى خريبكـة وعطلوا مصانع تنشيف الفوسفاط المتواجدة بيـن بولنـوار وخريبكة، وجرارات ومخازن لقطع الغيار، وهي عملية كبرى كبدت العدو خسائر فادحة لم يكن يتوقعها، وجاء نجاحها بعد شغل القوات الفرنسية وإحداث فجـوات داخـل صفوفها المنتشرة على طول الخط السككي، بعمليات موازية أمر بها قلبي، ونفدها عدد من المقاومين تم خلالها تخريـب الأسلاك الهاتفية وإحراق المحكمة ومصالح إداريـة أخرى. وبعد ساعات قليلة من انطلاق ثورة خريبكة 21 غشت التي بعد اندلاعها انخرط فيها جميع سكان المدينة ومعهم القادمون من القرى المجاورة للتسوق، وصلت الإمدادات العسكرية من وادي زم والدار البيضاء فبدأت بإطلاق النـار على المغاربة بـدون استثناء فقتلت المئات منهم في مجزرة لن يغفرها التاريخ للمعمر، وكانت نقطة تحول حقيقية ساهمت في نيل الحرية والاستقلال.
لم يسلم قلبي الميلودي، من جبروت المحتل ففي يوم ثورة خريبكة، وبينما كان رفقة زملائه في عملية ضرب مصالح المعمر بالمناطق الفوسفاطية، قصفتهم إحدى الطائرات فقتلت مجموعة من رفاقه وأصبته إصابة بليغة على مستوى الرأس، وكانت المرة الأولى التي أفلت منها من الموت المحقق، بينما الثانية عندما اعتقله مجموعة رجـال الدرك الفرنسي معتمدين في ذلك على وشاية من طرف بعض الخونة، فنقلوه إلى ضواحي خريبكة على بعد خمسة كيلومترات حيث قام أحدهم بإطلاق الرصاص عليه لكن الدركي الثاني وهو من جنسية جزائرية احتج على صاحبه على هذا التصرف، فسقط قلبي، مغميـا عليه حيث قاموا بنقله إلى مخفر الدرك للإسعافات، وكان إنقاذه من الموت لسبب واحد هو الحصول منه على كل الاعترافات التي تساعدهم على إخماد المقاومة خاصة المسلحة، لكنهم لم يفلحوا في ذلك، وشاء القدر أن تبقى رصاصة من ذلك اليوم مستقرة في جسده طيلة حياته وعاش بها 50 سنة كاملة، وهناك وثائق وصور طبية في خزانة عائلته تثبت ذلك. قلبي، داق خلال حقبة الحجر والحماية كل أنواع التعذيب والتنكيل من طرف قوات القمع الفرنسي، بأوامر من رئيس مصلحة المكتب الشريف للفوسفاط الذي كان يسمى “باريس” بإحدى البنايات التي كانت مخصصة لذلك للتعذيــب وكانت تحتوي على ثلاثة أقبية الأول كان يودع فيه المعتقليـن الجدد بكل أصنافهم والثاني كانت تمارس فيه الاسـتنطاقات والعنـف والتعذيب بكل أنواعه وأشكاله والثالث كان مكان ترمى فيه الجثث قبل أن تنقل إلى أماكن لطمس معالمها، كما زج به في السجن لمدة طويلة بدون أي محاكمة ووحدها الأقدار الإلهية ونهاية عهد الحجر والحماية وعودة السلطان الشرعي للبلاد جعلته يفلت من الإعدام. رحم الله قلبي الميلودي بن محمد بن الغزواني، الذي توفى سنة 2004 بعد حياة حافلة بالجهادين الأصغر والأكبر وكل شهداء الوطن الذين سقطوا في ساحة الشرف ورحم فقيد الأمة ومحرر البلاد محمد الخامس وريقه في الكفاح جلالة المغفور له الحسن الثاني.