بقلم / د. مجدي محفوظ
بعيداً عن صخب المدن عاش في قرية وتعلق بها قلبه، رجل بسيط يمتلك عزة نفس كبيرة رغم أنه لا يملك من حطام الدنيا الا بيت ورثه عن أبيه ودف كبير يصاحبه دوماً حين يتركه وحيداً يبدو عليه الحزن فلا تسمع له صوت وكأن قلبه تعلق بذكريات لا يستطيع أن يتركها لحظات فمنذ أن كان صغيراً وهو يتردد على أماكن المنشدين حينما يأتوا لأحياء ليالي مدح الرسول صلي الله عليه وسلم، أو احياء بعض المناسبات الدينية ، فما اسوء أن يعيش المرء اليأس والفرح قريبا منه ولكنه ليس بقدرته الشعور به رغم قربه منه ، ظل هكذا إلى أن تعلم الكثير وهنا أمسك بدفه وبدأ يرتجل تلك الكلمات التي كان يتأثر بها حين يناجي ربه مردداً ما يقوله المنشد ثم يعود لبيته ويجلس وحيداً ينشد من وحي خياله كلمات يعبر بها عن حاله،.
مرت الايام وتعالت كلماته ومناجاته لله فهو لا يطمح في الظهور أو الانخراط في أضواء المدينة الا أن ضيق ذات اليد جعله منزوياً خلف جدران بيتة لا أنيس الا مناجاة ربه ورسوله وطلب المدد، وتعلق قلبه بالسماء وأصبح الإنشاد ملاذه من غدر الدنيا وحبه الشديد وترويح نفسه من الهموم ووسط كل هذا الزخم تعرف علي فتاة بسيطة أحبت إنشاده وصارت بينهما علاقة قوية وتزوج بها لتصبح داره عامرة بذكر الله يردد كلماته علي دفه الكبير فيهز الدنيا طرباً من جنوبها لشمالها ثم يدون ما أنشد في أوراقه، وكان فقره حاجزاً بينه وبين الناس جعل انكساراً بداخله وأصبح صوته لا يسمعه الا أهل بيته ومرت الأيام وكبر الأبناء وازدادت مطالب الحياة والمرض وحالت الدنيا بينه وبين تحقيق جزء من أحلامه لكن صوته مازال ينشد تلك الاصوات السارية في عتمة الليل تنشد الملائكة توحي لهم بحب جميل مرددة كلماته بصوت ملائكي رحيم.
وعيناه تدمع وسعادة في قلبة بعدما أصبح البيت الفقير ينشد الله يناجيه يكتب علي صفحات الزمن الا بعداً لأولئك البشر الذين تبهرهم تلك الازياء الذائقة تلك الكلمات ، تلك الاصوات ، التي لا تستطيع أن تميز غناها من صواتها لكن يد العون مدت يدها لهم فصنعت منها أصوتاً جميلة خلف تلك الاجهزة المهذبة للصوت ومن خلفها الآلات التي تدمج نشازهم بالحان تُصنع الصوت …..فلا طرب ؟ هنا ظل المنشد ينظر لأولاده فرحاً بأدائهم الجميل فخرج من بيته ونظر من حولة الي الحشائش الخضراء الي الماء الذي يناسب جداول بين اسربها فبدأ في مناجاة ربه ليري الملائكة تأخذه من يده برحمه فاغرورقت عيناها بالدموع لتسمح علي وجه لتطاير الأمنيات يتلمس بقايا انفساهم وحين وصل للمنزل وفي زاوية من حجرته وجد ذاك الدف استلمه وجلس علي أريكته وقرع القرعة الاولي جاءت تلك الفتاة المفعمة بالأمل والحنين تسرج أمنياتها بصوت شجي وتحاملت علي الأمها وامسكت بتلك الاوراق التي بجواره وابتسامة برئيه وميلاد لحظات اللهفة من رحم الأمل فيتعالى صوت الدف ويعلوا أنشادها الجميل وهرع الانباء مع الام الصابرة وتمالكت دموعها وهي في لهفة لتلك الفتاة المتعبة ، وبدأ الدف يرسل الحانة والفتاة تنشد ما كتب والداها وهو ينشد معها والاخوة يرددون وتعالت صيحات الانشاد عالية مرتفعة وحامت الملائكة فوق هذا المنزل البسيط تستمع اليهم وذكر الله هو المعني ولا يزال المنشد الفقير يغني يكتب يرسل كلماته الي ذاك العالم المنزوي عن إبداعات الفقراء لتبقي كلماتهم نور السماء تحمله ملائكة الرحمة بعيداً عن شيطان البشر حتي لا تصاب بمكروه .. أيها المنشد الغني : ربما أنت غني لكنك ظلالك وانشادك ينعم بها ذاك العالم المرير …فاتركوا لنا احلامنا وآمالنا وانعموا بضجيجكم حتي نلملم جراحنا ونحن نناجي ربنا …..نتلمس المدد نعانق كلماتنا بأنفاس الملائكة !