يمكن اعتبار المغرب من بين النماذج المتقدمة في العالم العربي والإسلامي في اختبار تلك العلاقة الشائكة بين الإسلام والسياسة؛ حيث نجد من جهة، مؤسسة إمارة المؤمنين التي تجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية والحركات الإسلامية التي يتماهى لديها الديني والسياسي، ومعها التيارات السلفية والطرق الصوفية، ومن جهة أخرى تيارات سياسية وفكرية يتراوح موقفها من الدين بين العداء السافر والدعوة الصريحة إلى الفصل، ليس فقط بين الديني والسياسي في مستويين: المؤسساتي والمجتمعي ضمن معالم هذا التديّن المغربي المتعدّد، نجد غلبة تديّن تقليدي وصوفي.
زيادة على مرجعية التديّن التقليدي (الصوفي) في المجال التداولي المغربي، نعاين -أيضا- غلبة تاريخية لثقل المذهب المالكي، مما أسهم في التقليل من أعراض الظاهرة الإرهابية التي أصابت المغرب، على غرار باقي الدول العربية والإسلامية خلال العقدين الأخيرين على الخصوص.
إن خصائص المذهب المالكي التي يتميز بها تديّن بلدان المغرب العربي على الخصوص، تقف في خط مواز مع خصائص التديّن التقليدي القائمة -أصلا- في الساحة المغربية، ويمكن حصر أهم خصائص المذهب المالكي في النقاط التالية: الوسطية والواقعية والقصدية.
بدأت أول ملامح الإرهاب، الذي طال المجال التداولي المغربي، بُعيد اعتداءات نيويورك وواشنطن سيئة الذكر، أي قبل اعتداءات الدار البيضاء الإرهابية المؤرخة في 15 مايو 2003، حيث اتضح في ثنايا تفاعل بعض الفاعلين الإسلاميين مع اعتداءات نيويورك وواشنطن.
ابتداء من هذا المنعطف بالذات، مطلع 2002، تم الشروع في مشروع ديني “إصلاحي” ضخم، اصطلح عليه رسميا بمشروع “إعادة هيكلة الحقل الديني”، وجاء أول معالمه مع تعيين وزير جديد للأوقاف والشؤون الإسلامية، في سياق تكريس سياسة دينية تهدف إلى تحقيق أمرين: الأول الحفاظ على مقومات الهوية الدينية المغربية، المتمثلة في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف على طريقة الجنيد السالك؛ والثاني هو احتواء التطرف الديني.
في البداية تم رسم استراتيجية جديدة للدولة، طويلة المدى تستهدف جذور “العنف والإرهاب”، من خلال الواجهات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والدينية. وفي هذا جواب على القراءات التي ربطت اعتداءات الدار البيضاء بهذه الواجهات.
ثانيا وقع الرهان على استقرار المؤسسة الملكية من خلال تأكيد مؤسسة “إمارة المؤمنين”، وإعادة الاعتبار لها ولمقتضياتها. وفي هذا رسالة واضحة، سواء بالنسبة إلى الإسلاميين بحكم استنادهم إلى المرجعية الإسلامية الحركية، أو بالنسبة للعلمانيين بحكم مطالبتهم بفصل الدين عن الدولة.
في بعض تفاصيل هيكلة الحقل الديني، تمَّ فتح مجموعة من المشاريع، ومنها تلك الخاصة بالإعلام، حيث تمَيّزت السياسة الدينية الجديدة بإطلاق “قناة محمد السادس للقرآن الكريم”.
ومن أهم محطات إعادة الهيكلة هذه، إشراك المرأة في مجالات التكوين والتأطير الدينيين، وذلك بتدشين ورش عمل لتكوين المرشدات الدينيات.ولعل التميّز المغربي في تدبير الشأن الديني، من جهة، وفي التصدي للظاهرة الإرهابية، من جهة ثانية، يُفسّر أسباب توصل المغرب بعدة مراسلات رسمية من دول إسلامية عربية وأفريقية، خلال الآونة الأخيرة، منذ عام 2014، بشأن تكوين الأئمة والاستفادة من الخبرة المغربية في عمارة المساجد والاستفادة من دورات تكوينية في مجال تدبير الشأن الديني، والإحالة -هنا- على التجاوب المغربي مع طلبات ست دول عربية وأفريقية، على الأقل إلى غاية مطلع 2015.
مُحددّات ومعطيات خوّلت للمغرب أن تحظى كلمته بمتابعة إعلامية كبيرة، على هامش اجتماع رفيع المستوى نظمته لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن في نيويورك مساء 30 سبتمبر 2014 حول موضوع “مكافحة التحريض على ارتكاب أعمال إرهابية بدافع التطرف واللاتسامح: مقاربة المغرب وتجارب دول أفريقية أخرى”، عندما أكد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، أن “مناهضة الإرهاب تقتضي إرساء المشروعية السياسية ودعمها بالإصلاح في جميع الميادين، كما تستدعي وجود مؤطرين دينيين من علماء وأئمة مؤهلين وواعين بمقاصد الدين ومصالح الأمة في انسجام مع شروط السلم والمعروف”.
إشارة المسؤول المغربي للبعد الصوفي، تُحيلنا من جهة أخرى إلى إحدى أهم الجبهات التي تُميز في المغرب في سياق الحرب على “الجهاديات”، أي الجبهة الصوفية، ما دمنا نتحدث عن مجال تداولي يتميز أساساً بحضور نوعي وتاريخي للتدين التقليدي/الصوفي، إلى درجة وصف بلاد المغرب العربي بأنها “بلد الأولياء” مقابل وصف دول المشرق العربي بأنها “بلاد الأنبياء”، بما “يشفع” لصناع القرار في المغرب الرهان على الورقة الصوفية في معرض مجابهة الخطاب الإسلامي المتشدد والمتطرف.
خلاصة من بحث منتصر حمادة ‘ النموذج المغربي في مكافحة الإرهاب’، ضمن الكتاب 102 (يونيو 2015) ‘مكافحة الإرهاب المفاهيم والاستراتيجيات والنماذج’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.