خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله
هناك مأساة في العالم العربي اسمها مأساة المعتدلين الذين يؤمنون بالديمقراطية وإمكان أن يعيش العربي في ظل دولة القانون. كلما هبت عاصفة على مستبد، ظهر هؤلاء وراهنوا على انقاذ بلدانهم من الظلم والظلام معاً. لكن مسارات «الربيع العربي» كشفت ضعف اهل الاعتدال أمام دعاة الزي الموحد المتمنطقين بالسلاح. لذلك تبدو المعركة مفتوحة وطويلة.
ولد محمود جبريل في بنغازي في 28 ايار (مايو) 1962. تفوق في الدراسة فأُرسل لمتابعة تحصيله الجامعي في فرع العلوم السياسية في مصر. بعد العمل لفترة في وزارة الخارجية اوفدته الحكومة الى جامعة بتسبرغ في اميركا حيث نال الدكتوراه ودرس في الجامعة نفسها. اختار العمل الاستشاري وقبل مضطراً موقعاً في مجال التخطيط في ليبيا ثم انسحب تدريجاً ليركز على عمله الخاص في الاستشارات والتدريب مع اهتمام دائم بالمستقبليات وشؤون التنمية.
تولى رئاسة «حكومة الثورة» بعد اندلاع الانتفاضة ضد معمر القذافي واستقال في 23 تشرين الاول (اكتوبر) بعد ثلاثة ايام من مقتل القذافي. استوقفتني قراءته لـ «الربيع العربي»، وهنا نص الحلقة السادسة والاخيرة:
> مَنْ قتل «الربيع العربي»؟
– «الربيع العربي» قتله «الربيع العربي»، لأننا حمَّلناه توقعات وأحلاماً من دون أن يُفهَم على حقيقته، فأجرمنا في حقه قبل أن يولد. لا بد من تأسيس فهم صحيح لهذه الظاهرة، حتى نحكم لـ «الربيع العربي» أو نحكم عليه. أولاً لم يطلق هذا الاسم أي من المشاركين في هذه الظاهرة، وإنما أطلقه الصحافي الكاتب توماس فريدمان تيمّناً بما حدث في اوروبا الشرقية، بالتالي لا الاسم ولا الهدف من «الربيع العربي»، عندما أطلق عليه، كان أنه سعي نحو الديموقراطية. أيضاً هذا لم يكن ضمن شعارات «الربيع العربي»، لا في شعارات المتظاهرين في مصر ولا في ليبيا ولا تونس، بالتالي حُمِّلت الظاهرة أشياء لم تكن من داخلها ثم حُكِمَ عليها بأنها لم تستطع أن تحقق هذه الأهداف في زمن قصير جداً مقارنة بالمنظور التاريخي لزمن الثورات. على سبيل المِثال الثورة الفرنسية استغرقت أكثر من ثمانين سنة، اذ حفلت السنوات العشر الأولى بالدماء والسحل والقتل في الشوارع. من منظور الثورات الكبرى نحن ما زلنا في المقدمة، لم نبدأ الفصل الأول بعد.
> هل يمكن القول ان ما تشهده سورية ساهم في كشف ويلات «الربيع العربي»؟
– أعتقد أن البوادر الأولى كانت مع الحالة الليبية ثم أصبحت أكثر رسوخاً في الحالة السورية، عندما بدأ ما يُعرف بـ «الربيع العربي» يتخذ طابعاً دموياً. فمقارنة بالحالتين المصرية والتونسية، يُعتبر «الربيع العربي» في الحالة الليبية عنيفاً بكل المقاييس، ثم اتخذ هذا العنف شكلاً كارثياً في الحالة السورية، فأصبح رادعاً قوياً لكثيرين في دول أخرى عربية باتوا لا يريدون أن ينتهوا الى المآل ذاته. الآن يُحكم على ظاهرة الثورة عربياً من منظور ما حدث في ليبيا وما يحدث في سورية، وهذا ظلم تاريخي، لأن انتفاضة الشعوب هي حق تاريخي لها أينما وُجِدَت ومتى وُجِدت، ويجب ألاّ يُحكم عليها من منظور قصير ومن منظور ما تتخذه هذه الثورات من مظاهر مسلحة، قد تُفرَض عليها وليست من اختيارها. فالسلاح لم يكن اختياراً ليبياً ولم يكن اختياراً سورياً وإنما فُرِضَ على هذه الشعوب.
> هل لعبت «القاعدة» دوراً في قتل «الربيع العربي»؟
– لا شك في أن حالة السيولة التي تمخضت عن «الربيع العربي»، تحديداً في الحالتين الليبية والسورية، مثّلت فرصة سانحة لكثير من عناصر التطرف للدخول ومحاولة تحويل هذه السيولة الى حالة صلبة كما تراها هذه العناصر. ولعلي أدّعي أن هذه العناصر، من «القاعدة» والتكفيريين الجهاديين وغيرهم من عناصر التطرف المسلحة التي تدعو الى العنف وإلى إقامة شرع الله بحد السيف كما تدّعي، ربما عن عدم وعي كافٍ وربما استُغِلَّت من أطراف غربية لتجميعها في مكان معين كمقدمة لاحتوائها بدلاً من مواجهتها.
لعل كثيرين يعرفون اليوم أنه بدءاً من 2007 كان هناك تغيّر حقيقي في الاستراتيجية الأميركية تجاه ما يصفونه هم بالإرهاب الاسلامي أو التطرف الإسلامي. فبدلاً من مواجهته بدأ الحديث عن احتوائه، حتى أنهم يدعونها بظاهرة التحول من C الى C، من Confrontation إلى Containment، من المواجهة الى الاحتواء. ثم ظهر تقرير «راند كوربورايشن» ليؤكد هذه الظاهرة. «راند كوربورايشن» كانت تقول إن المستقبل هو لتيار الإسلام السياسي ولا بد من استغلاله والتحالف معه لاحتواء التطرف الإسلامي. ولعله بسبب هذا التغيّر في التوجه الاستراتيجي الأميركي، بدأت مظاهر تدفق كبير لعناصر كثيرة من عناصر التطرف الإسلامي الى المنطقة، تحت سمع الولايات المتحدة والأطراف الأخرى الغربية مثل فرنسا وبريطانيا، وبصرها. فكان هذا التدفق مسموحاً به بل ومرغوباً فيه ومشجَّعاً عليه تجاه ليبيا وسورية.
ربما كانت لدى الولايات المتحدة، من وجهة نظرها، فرصة حقيقية لتجميع هذه العناصر من مناطق العالم، ثم احتوائها من طريق ما يُعرف بالاعتدال الإسلامي ممثلاً بـ «الإخوان المسلمين». وعندما لم يصل «الاخوان» إلى الحكم في ليبيا، ثم تغيّر الأمر في مصر بتنحية محمد مرسي، بدأ الآن المأزق الحقيقي: ان كثيرين من هذه العناصر أصبحوا موجودين في المنطقة مهددين لأوروبا، وفي الوقت ذاته، المشروع الذي كان مرغوباً فيه لدى الولايات المتحدة لم يُكتَب له النجاح. بالتالي، هناك الآن ورطة حقيقية أمام الغرب وأميركا في كيفية التعامل مع هذه العناصر.
> هذا كان التوجه الأميركي، ولكن هل كانت هناك ركائز إقليمية لهذا التوجه؟
– أعتقد بأن قطر وتركيا كانتا تقودان هذا المشروع في المنطقة برغبة وإيعاز أميركي غربي كامل. وربما كانت للمشروع علاقة بتسوية للصراع العربي- الإسرائيلي بإعطاء جزء من سيناء لفلسطينيي المهجر، اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، وإقامة شبه منطقة حرة. لعل هذا ما يفسر بعض الاستثمارات من دولة عربية في ما كان مخططاً له في ما يُعرف بـ «شرق التفريعة» – أي شرق قناة السويس كما تسمى في مصر. كان مخططاً أن تكون هناك استثمارات ضخمة وإقامة هونغ كونغ أخرى في تلك المنطقة (سيناء)، وإنهاء القضية الفلسطينية بهذا الشكل. قطر ضخت هذه الاستثمارات أو كان مخططاً لها أن تضخها. هذه قراءة.
الأمر الآن منوط بالعناصر الإسلامية التي توصف بالتطرف. إذا كان هذا الأمر تم من دون وعيها فلتعرِف أنها يمكن أن تُستَغَل كذريعة لتدخل أجنبي حقيقي في الأراضي العربية. بالتالي، أدعو بإلحاح هذه العناصر، سواء من منظور إسلامي أو من منظور التاريخ أو الوطن، أن تعي هذه الحقيقة جيداً وتنتصر للوطن فلا يُترَك لقمة سائغة لتدخلات أجنبية بذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي أو التطرف الإسلامي.
> أفهم من كلامك أن وصول مرسي مثلاً الى الرئاسة كان ينسجم مع الرغبات الأميركية.
– أعتقد بأنه كان ينسجم تماماً مع هذه الرغبات، ولعلك تلاحظ جيداً أنه عندما سقط مرسي في مصر، كان موقف الإدارة الأميركية غاضباً وشديداً من منظور مخالفة الشرعية أو انتهاك الشرعية الديموقراطية وما الى ذلك. أما حين انتُهِكت الشرعية الديموقراطية في ليبيا، عندما مُنِعَ «تحالف القوى الوطنية» الذي فاز في صناديق الاقتراع، مُنِعَ بقوة السلاح من تسلم السلطة لم يكن هناك حتى بيان واحد من الخارجية الأميركية أو من أي جهة اميركية تدين هذا التطرف أو تحتج عليه.
التناقض كان واضحاً. عندما تيقنت الإدارة الأميركية من أن المشروع في مصر لم يُكتَب له النجاح، و «الاخوان» في ليبيا لم يصلوا الى الحكم من طريق صندوق الاقتراع، تغيّر الموقف الأميركي فجأة ووجدنا السيد جون كيري (وزير الخارجية) يصرّح بأن «الإخوان» سرقوا الثورة في مصر.
الموقف الأميركي موقف انتهازي نفعي مصلحي من الطراز الأول. هو مفهوم السوق ومفهوم الصفقة، يبحث عن مصلحته وعن القوي ليحقق مصلحته، بالتالي دعاوى الديموقراطية وحقوق الإنسان مجرد أغطية، «الربيع العربي» الحقيقي جاء ليكشفها وليكشف حدود صدقيتها في الضمير الغربي. الغربيون يتحدثون عن شيء في وسائل الإعلام ويمارسون شيئاً آخر على الأرض اسمه المصلحة أولاً والمصلحة ثانياً والمصلحة ثالثاً.
> هل تعتقد فعلاً أن وزير الدفاع المصري المشير عبدالفتاح السيسي أربك الحسابات الأميركية؟
– قطعاً، أربكها جداً، والتوجه الجديد في الاستراتيجية الأميركية ظهر عندما خرجت علينا سوزان رايس قبل نحو أربعة اسابيع لتقول: لن نسمح لمنطقة ما في العالم بأن تشغل بال البيت الأبيض على مدار الـ 24 ساعة، وأولويتنا الآن هي آسيا ممثلة في الصين والهند. أما بالنسبة إلى ظاهرة «الربيع العربي» فتُترَك لشأنها، الاهتمام داخل المنطقة العربية سيكون محصوراً في محاربة الإرهاب، أو إذا تهددت مصالح أحد حلفائنا.
ببساطة شديدة، أعتقد أن أهداف أميركا الاستراتيجية التاريخية في المنطقة تحققت الى حد بعيد: أمن اسرائيل والنفط. أمن اسرائيل لم يكن أفضل حالاً في أي وقت مضى مما هو عليه الآن. تحطمت القدرات العسكرية في العراق وسورية وكانت مرشحة للتدمير في مصر، والآن هناك محاولات لمنع قيام جيش في ليبيا. و «حزب الله» يخوض قتالاً صعباً في سورية. بالتالي، لا يُسمح بقيام جيش عربي قوي يهدد الأمن الإسرائيلي، خصوصاً بعد الحالة التي وصل إليها هذا الأمن من السلام شبه المطلق. الأمن الاسرائيلي أصبح في أفضل حالاته منذ 1948.
على صعيد النفط، الانتاج الأميركي عام 2014 سيؤثر في نصيب «اوبك» في السوق العالمي للنفط، فالأميركيون لم يعودوا بحاجة الى النفط العربي كما كان الحال سابقاً، بالتالي هذان الهدفان الاستراتيجيان تحققا فقلَّ الاهتمام بالشرق الأوسط. أما الحديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان فذلك أمر متروك للرأي العام المحلي، لكن تحقيقها كهدف استراتيجي لم يكن ولن يكون ضمن أولويات السياسة الخارجية الأميركية أو السياسة الخارجية الغربية بصفة عامة.
> إذا عدنا الى مسألة قتل «الربيع العربي»، هل قُتِل من داخل مجتمعاتنا؟ أي هل جاءت هذه التغيرات قبل أوانها، قبل أن تكون مجتمعاتنا مستعدة لالتقاط الفرصة؟
– في هذه النقطة، ربما أتحدث باستفاضة قليلة. أعتقد بأن الربيع لم يُقتل. «الربيع العربي» يواجه بعض العثرات نتيجة سوء الفهم. هو (الربيع العربي) نشأ كرد فعل لبوادر بزوغ نسق قيَم جديدة في المنطقة، مرتبط بالظاهرة الكونية التي سُميت بالعولمة. ونذكر جيداً أن أولى تجليات العولمة في الجانب الاقتصادي المالي كانت عام 2008 عندما انهارت سوق الأوراق المالية في «وول ستريت»، فكشفت أن البنية المتولدة عن عصر الصناعة لم تعد صالحة للتعامل مع العصر الجديد الذي أساسه السرعة والتغير المعرفي المتسارع. المؤسسات الذي ظهرت، مثل صندوق النقد والبنك الدولي وتمخضت عن اتفاق «بريتن وودذ» عام 1947، لم تكن في فرضياتها، عندما بُنِيت، هذه السرعة الشديدة وظهور التعامل الـ virtual أو الخائلي (الافتراضي) في سوق الأوراق.
ففكرة الاقتصاد الخائلي أن التحالف الأبدي الآن بين رأس المال والتكنولوجيا، أنتج ما يُعرف بالاقتصاد الفائق الرمزية (ultra symbolic economy) الذي يعتمد على سرعة دوران الأموال والبورصة والسندات ما بين الأسواق المالية. فاليوم تتم التحويلات من طريق كومبيوتر محمول أو هاتف محمول، وتستطيع أن تستفيد من فروق بين الأسواق المالية، هبوط البورصة وصعودها، من مكان الى آخر من دون تدخل البنوك، بالتالي هذا التغيّر جذري في المعاملات المالية. وتحوّل الاستثمار من مالٍ يخلق مزيداً من الإنتاج الى مالٍ يخلق المزيد من المال من دون أن يُترجَم ذلك في إنتاج حقيقي. هذه المعادلة لو أضيفت إليها الزيادة الكبيرة والمتسارعة في عدد سكان العالم – سيقترب من حوالى عشرة بلايين في 2050 – ستجد أن عدد الأفواه الجائعة يزداد بينما الانتاج في العالم يقلّ، خصوصاً أن غالبية اقتصادات العالم بدأت تتحول الى اقتصادات خدماتية وليست صناعية وزراعية تعطي مزيداً من الإنتاج الذي يُطعم الأفواه. فمجاعات ستحصل في الفترة المقبلة لا محالة، خصوصاً في افريقيا. ولكن في المجال المالي، المال أصبح يخلق المال وليس الانتاج، فأصبحت هناك هوّة بين القيمة الحقيقية للمال في شكل إنتاج والقيمة الرمزية للمال التي تتزايد. هذا خلق هوّة كبيرة لم تكن المؤسسات المالية التي تولدت عن «برتون وودز» جاهزة للتعامل معها، لذلك ستحدث هزات مالية أكبر في الفترة المقبلة.
في الجانب الثقافي، ثقافة العولمة التي أساسها الـ connectivity أو الترابط والتواصل عبر الحدود بين الأجيال المختلفة، أصبحت تشكل نسقاً قيمياً جديداً في منطقتنا العربية، لا يشذ عن بقية مناطق العالم. فقلَّ تأثير الأسرة في تربية أبنائها، وقلَّ تأثير المدرِّس في خلق نسَق القيم، وقلَّ تأثير المسجد، وأصبح الانترنت والفضائيات أكثر تأثيراً، فبات الفرد مرتبطاً أكثر بالآخر، أكثر من ارتباطه بالداخل. هذا خلق مسألة جديدة جداً، كُسِرَت القيَم التي زُرِعت فينا نحن كأجيال قديمة، كنُخَب بعد الحرب العالمية الثانية: عقدة الخوف. هم (ابناء الجيل الجديد) لديهم قيمة المبادرة بدل عقدة الخوف التي لدينا، لديهم قيمة الاقتحام وقيمة المخاطرة. هم أكثر قدرة منا على نطق كلمة «لا»، وهذا الأمر هو الذي خلق ظاهرة «الربيع العربي» في أولى تداعياتها. سبب الظاهرة أن هؤلاء الشباب لا قيادة لهم، لأن التنظيم نفسه تنظيم من نوع جديد لا يعتمد الزمان ولا المكان، تنظيم عابر للحدود، غير مرئي، لا مكان له ولا زمان لحركته. الأمر الثاني أن هذا التنظيم لا يحمل مشروعاً متكاملاً كما كانت الانقلابات العسكرية التي تلت الحرب العالمية الثانية: حرية وحدة اشتراكية، وما الى هنالك… كل الانقلابات التي مرت على المنطقة تضمنت دائماً البيان الرقم واحد، الذي يدل على هوية أصحابها ومشروعهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. في هذه الحالة ليس هناك مشروع، هناك طوفان بشري اجتاح الشوارع في كل المدن العربية باتساع الوطن، فهم يبحثون عن حياة أفضل وحياة أكرم بعد معاناتهم من البطالة، بسبب فشل الدولة القومية بعد الحرب العالمية الثانية في إنجاز قضية التنمية، وبسبب ظهور قضية التوريث، سواء في سورية أو مصر أو تونس أو اليمن. قضية التوريث كانت مطروحة بقوة، ما يعني أن يصبح التخلف حالة سرمدية. البطالة تزيد في تلك الدول، فحدث الانفجار، خصوصاً أن القيَم التي تمنع الانفجار تحطمت.
أعتقد أن هذه الظاهرة أساءت فهمها ثلاث فئات، بعضها دفع الثمن وبعضها سيدفعه. الفئة الأولى هي الذين كانوا يحكمون هذه الدول ودفعوا الثمن بسقوطهم عن عروشهم، لم يشعروا بأن العالم تغيّر. الثانية هي فئة النخب التي اعتقدت أن هذه الظاهرة فرصة سانحة قابلة للاستغلال، لتقودها من منطلق أن هؤلاء الشباب لا قيادة لهم فاستُغِلوا من منظور انتهازي. أكثر هذه النخب تنظيماً هي جماعة «الاخوان المسلمين»، فهي مؤطرة وتعمل منذ العام 1928 وتمويلها مؤمّن، هي جزء من تنظيم دولي، بالتالي كان «الاخوان» أقرب الى استغلال هذه الفرصة من نخب مفككة وغير مؤطّرة.
الفئة الثالثة هي فئة الأنظمة، أو الأطراف الخارجية مثل الغرب بكل فئاته، وبعض الأطراف الإقليمية التي ظنت أنها بالتحالف مع هذه النخب تستطيع تطويع هذه الظاهرة لمصلحة مشاريعها. فأصبح هناك ربيعان: ربيع عربي حقيقي ظهرت من خلاله أصوات وطنية وشباب يبحثون عن مستقبل أفضل، وربيع عربي آخر، إسمح لي أن أضع نقطة فوق الـ «عين»، هو «ربيع غربي» يحاول أن يكيّف هذه الظاهرة لمصلحته. أعتقد بأن البقاء هو لهذا الشارع، وطالما أن الشباب موجودون بهذا الوعي وبهذا الرفض، لن تستطيع النخب ولا الأطراف الخارجية أن تقف أمام هذا الطوفان حتى يحقق أحلامه. لذلك اقول إننا ما زلنا في المقدمة ولم نبدأ الفصل الأول بعد، لأن هذا الطوفان هادر فالشباب العربي يشكل 67 في المئة من سكان الوطن العربي.
> إذا كان هذا برنامجاً غربياً فلماذا تدخلت تركيا لتكون هي القناة أو الأداة؟ هل هو البرنامج «الإخواني»؟
– الغرب يرى في تركيا نموذج ما يمكن أن يُسمى «الليبرالية الإسلامية». المادة الأولى في الدستور التركي تقول إن تركيا دولة علمانية، وفي جلسات كثيرة مع رجب طيب اردوغان قال لي «إن الدولة لا دين لها». هذه المقولة لو قلتها في دول «الربيع العربي» لاتُّهِمتَ بالكفر. داخل المنظور الليبي وعلى رغم محاولة شرح هذا الأمر، إلصاق تهمة الكفر بمَنْ يقول هذه العبارة كان عائقاً، لكنهم لا يستطيعون إلصاق التهمة ذاتها بتركيا لأن تركيا حليفة. تُلصَق تهمة الكُفر بشركاء الوطن، أبناء الجلدة وأبناء الدم. ما أقصده أن تركيا كانت أقرب الى النموذج الغربي بمسحة إسلامية.
وأعتقد أن دخولها المكثف وانخراطها المكثف في ظاهرة «الربيع العربي» هما تعويض عن فشل تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي، وربما اعتقدَتْ انها من خلال السيطرة على قوة اقليمية أو مركز نفوذ اقليمي، تستطيع أن تفاوض به أوروبا مستقبلاً. المنافسة الحقيقية ستكون بين إيران وتركيا في منطقة الشرق الأوسط، والمستفيد من كل ذلك هو اسرائيل. كلما كثُر المتنافسون والمتصارعون والمتخاصمون كان الأمر لمصلحة إسرائيل بالإيجاب. دول مجلس التعاون الخليجي، إذا كان هناك مزيد من التنسيق بينها، ومزيد من الترابط في شكل اتحاد أو في شكل آخر، قد تكون قوة ثالثة تنافس بسبب القوة الاقتصادية، النفط والمال في هذه المنطقة. قد تكون قوة تستطيع أن تؤثر في مجريات الأمور.
من الظلم للعرب ولهؤلاء الشباب أن يُنعتَ «الربيع العربي» بالمؤامرة، كأنما هؤلاء الشباب وظِّفوا من جانب الغرب كما يدَّعي بعض الكتب التي نُشِرَت أخيراً، وكأنما نحن عبارة عن أحجار على رقعة شطرنج يحركها الأميركيون أو الغرب كيفما شاؤوا. هناك إرادتان الآن على الأرض، وإرادة الشارع هي التي ستنتصر، لأن إرادة الشعوب دائماً من إرادة الله سبحانه وتعالى.
> ألا تعتقد أن الأحداث المروّعة في سورية بعثت رسالة فحواها أننا انتهينا من الفصل الأول من «الربيع العربي»؟
– بعد خلع الأسنان الكيماوية أصبحت سورية كنظام بشار الأسد أكثر أهمية للأميركيين وللغرب من الثورة السورية ومن دعم المعارضة وما الى ذلك. لأن نظام الأسد الجديد الذي لا يمتلك القدرة العسكرية والجاهز لتوقيع أي معاهدة مع اسرائيل، سيكون أكثر أهمية لأمن اسرائيل من مجهول قد يحمل في طياته بعض مَنْ يسمّونهم بـ «المتطرفين»، أي تهديداً لأمن اسرائيل. أعتقد أن اميركا ستدعم إعادة تأهيل نظام الأسد، ربما عبر صيغة قريبة من صيغة اليمن، عبر أحد الأشخاص من نظام الأسد، والأسد لا يطاوله القضاء، مثل حالة علي عبدالله صالح، أي استمرار النظام وتطعيمه ببعض عناصر المعارضة لشن حرب على «القاعدة».
فشل مشروع احتواء «القاعدة» وما يسمونه التطرف الإسلامي، خلق انقلاباً في التوجه الأميركي في الفترة الأخيرة، منذ حالة مصر الى الآن هناك تغير في هذا التوجه. مصر قلبت المعادلة، مصر تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً هي الدولة القائدة في المنطقة، القاطرة التي تجر، وعندما تسقط مصر تسقط الدول العربية وراءها، وعندما تنهض مصر ينهض معها العرب. هذا شاهد تاريخي، بالتالي من مصلحة كل الدول العربية أن تدعم مصر وبقوة لتقف على قدميها. فحالة مصر تشكل خطورة على المشروع من منظورين، إن الذي أسقطه هو الجيش، والجيش في المشروع الذي كان مخططاً له، كان يجب أن يُفكك. الجيش انتهى في العراق، الجيش يُدمَّر في سورية، والجيش كان مخططاً له ألا يقوم في ليبيا، وأن ينتهي في مصر. فجأة الجيش في مصر هو الذي قَلَبَ المعادلة. عبدالفتاح السيسي يعيد الى الأذهان فترة يريد الغرب أن ينساها هي فترة الناصرية، عندما التف الشعب حول قيادة معينة. هذه الظاهرة وهذا الالتحام أياً تكن أسبابهما، أمر صعب الفكاك منه، دائماً التغلغل يحصل عندما تكون هناك هوّة بين القيادة والشعوب. ولكن عندما يكون هناك التحام يصبح التغلغل صعباً جداً، بالتالي الحالة المصرية تمثل خطراً من نشوء ظاهرة القيادة الكاريزماتية التي لها شعبية في الشارع، وتذكّرنا بأيام عبد الناصر. والذي أحدث هذا الانقلاب في المخطط هو الجيش في مصر، وهذه كانت ضربة للمخطط في الجوهر. هذا سيعطي دافعاً لدول عربية كثيرة لكي توجّه «الربيع العربي» الوجهة الصحيحة، بحيث يكون في جوهره ظاهرة تنموية بامتياز، تعيد إلى المواطن العربي حقوقه: في المأكل والعيش الكريم والسكن الكريم والوظيفة المحترمة، والمشاركة في بناء بلده من خلال مفهوم حقوق مواطنة متساوية.</