بقلم : د.حبيب عنون، باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية
من الجلي أن تناول الوزير لحسن الداودي لموضوع مجانية التعليم العالي بصيغة المد والجزر وباستثناء بعض المؤسسات عن باقي المؤسسات والمعاهد كما هو الشأن بالنسبة للشرائح الاجتماعية في المغرب، لمن شأنه أن يخلق ضجة سياسية مجانية بالنظر للطابع السلبي الذي باتت تتميز به مكونات المشهد السياسي التي تناست تدبير شؤون المواطن المغربي وانتظارا ته وباتت تغوص في “احفر لي ، نحفر ليك” كما نعتها عاهل البلاد نقلا عن بعض الصحف وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها لتكون سندا لتفعيل هذا الورش أو حتى مجرد التلميح إليه. علاوة على المخاض التي تعرفه جل الأحزاب السياسية المغربية في محاولة منها لتكييف تنظيماتها وتوجهاتها في أفق تنزيل الجهوية الموسعة والاستحقاقات الجماعية والتي قد ترغمها سياسيا على عدم حتى مناقشة ما يطمح إليه الوزير لحسن الداودي. كما أنه منذ فجر الاستقلال، لم تتجرأ أية حكومة، ولو بتبنيها لمنهجية تدريجية تشاورية، على تناوله ولو حتى فتح نقاش وطني بخصوصه. ضجة سياسية لكون هذه المبادرة تطرح في ظرفية سياسية واقتصادية غير مواتية وبالتالي قد يسهل نعتها بما نعتت به تلك الخرجات الأولى لوزراء العدالة والتنمية والتي لكونها باتت دون غد لم تؤد إلا إلى إنهاك مصداقية مبادرات حزب العدالة والتنمية. أما الظرفية الاقتصادية والاجتماعية، فمعاليكم، رجل اقتصاد، ومن اليقين أنكم على دراية بالوضعية الاقتصادية الهشة للمواطن المغربي، باستثناء الميسورين منهم، وتفاقم معاناته مع المواد الاستهلاكية والسكن والصحة. لم يطرح هذا الملف، معالي الوزير، حتى خلال حقبة تفعيل سياسة التقويم الهيكلي للإقتصاد الوطني والتي ربما كان حينها هذا الأمر ممكنا ليتناوله حاليا الوزير لحسن الداودي ولكن من زاوية “تضامن الغني مع وزارة التعليم العالي وتضامن هذه الأخيرة مع الفقير”. من الموضوعي ومن الجدي أن مجانية التعليم العالي وجبت الجرأة السياسية التشاركية والموضوعية للشروع في تنزيلها إلا أنه ثمة عدة ملاحظات بخصوص هذا الورش:
أولا: كيف سيتقبل المواطن المغربي أداء واجبات ولوجه سلك التعليم العالي ومنذ توليكم لحقيبة التعليم العالي وأنتم تصرحون بتفشي الفساد: من سوء التدبير إلى تزوير الشواهد والنقط إلى غياب الشفافية في امتحانات إدماج حاملي الشواهد العليا ضمن أساتذة التعليم العالي … مزكين تخوفات الحاصل على الباكلوريا من الاقبال على الجامعة وأنتم على بينة كون ولوج الجامعة هو آخر ملجأ يفكر فيه حامل شهادة الباكلوريا بعد استنفاذه لكل المحاولات قصد ولوج معاهد أخرى أو التوجه نحو الخارج. وهذا أمر ليس بجديد بل ها أنتم تزكونه بتأكيدكم على الفساد المستسري في دواليب الجامعات والمعاهد العليا.
ثانيا، ماذا تستتجون معالي الوزير من اضطرار الطلبة وتحمل الأسرة المغربية لمصاريف دراسة أبناءها بالمعاهد العليا عوض التوجه إلى الجامعة والمعاهد المغربية؟ أهو حب لديهم في إنهاك ميزانية أسرهم؟ فما وصفتموه بالفساد هو من يدفعهم لذلك وما وصفتموه ب”الوهم” الذي تقدمه بعض المعاهد العليا الخاصة قصد إغراء الطلبة وجلبهم لدبهم فهذا أمر تتحمل وزارتكم بصفتها الوزارة الوصية وزره وهو دليل جلي لعدم ضبط وزارة التعليم العالي لاشتغال المعاهد المرخص لها.
ثالثا، لا يجب أن ننكر معالي الوزير أنه ثمة معاهد عليا تقدم تعليما عاليا مقارنة مع ما تقدمه الجامعة لا من حيث المقررات التي يتم تحيينها وفق ما يتطلبه سوق العمل ولا من ناحية الأطر التي تكون لها مؤهلات علمية وعملية ولا من ناحية عدم غياب الأطر التربوية والمراقبة المستمرة لما يتم تلقينه للطلبة بحيث يعمل المعهد العالي الخاص على إعداد مقررات يلزم الأستاذ على احترام مضمونها؛ ولا من ناحية غياب الانقطاع في مسار التدريس عكس ما هو سائد في التعليم العمومي العالي حيث باتت الانقطاعات في مسار التدريس بسبب كثرة وطول مدة الاضرابات التي باتت تكتسي خطورة كبيرة على الطلبة، معطى مألوفا. كل هذه البنود غائبة عن الجامعات والمعاهد العمومية أي لا رقابة على ما يتم تلقينه ولا تحيين للمقررات، إضافة إلى الاضرابات المتتالية بفعل جعل الجامعة المغربية حلبة للصراعات الايديولوجية الدموية، ناهيك عن عدم نزاهة عمل ثلة من الأساتذة الذين بدون رقيب ولا حسيب يتغيبون عن أداء واجبهم في التدريس للتوجه نحو القطاع الخاص إما مؤجلين لمحاضراتهم وإما تاركين من ينوب عنهم في تأدية مهامهم .
رابعا، معالي الوزير، أعتقد أنكم اتخذتم المواطن الفقير سخرية واستغلالا ربما لأغراض سياسية انتخابوية محضة قصد تمرير أداء مصاريف مدرسة المهندسين ومدرسة الطب بدون تعليل موضوعي مبررين مبادرتكم بكون المؤسستين تتطلبان أموالا كثيرة لاقتناء أدوات ومعداة التدريس وبالتالي فعلى ال”غني” الاداء مع تكفل وزارتكم بال”فقير”. عفوا معالي الوزير لكون مقاربتكم وجبها نوع من التدقيق بمعنى أن معيار “الغني والفقير” لغياب الاحصائيات التي قد تعلل أنه ما سيؤديه الغني من شأنه أن يغطي مستلزمات المعهد ومستلزمات الفقير. هذا إذا تم إقناع المانحين بغياب الفساد وحسن تدبير أموالهم. هذا مع العلم، معالي الوزير أنه من يدفع واجبات الدراسة يصبح له الحق في المطالبة بالجودة بمفهومها الشامل أي جودة كل ما تستلزمه الدراسة. فمعيار “الغني والفقير” وجب ربما موازاته وإغناءه بمعيار المؤهلات الذهنية. ذلك أنه لا معنى لتحمل الوزارة لمصاريف طالب فقير دون مؤهلات أي دون معدلات تعلل مؤازرته من طرف الوزارة. كما أن الغني بدون مؤهلات فلا أعتقد أنه سيستمر في أداء مستحقات جامعة لا يحصد منها سوى الرسوب. ليبق أمامه طريقين إما شراء شهادة عن طريق تزويرها كما أشرتم لذلك إذا لم تتدارك وزارتكم تصحيح الوضع أو أنه سينسحب صوب معهد خاص أو صوب الدراسة بالخارج. وبالتالي ستجدون هاتين المؤسستين مليئتين ب”الفقراء” ذوي المؤهلات تتحمل وزارتكم تمويل مصاريفهم الدراسية في غياب الأغنياء “الممولين” وفي هذا فشل لمبادرتكم . ليست هذا بتشاؤم ولكن وجب أن نعترف بأن كل الاحتمالات واردة.
خامسا، ما هو عدد الأغنياء الذين أولا سيرغبون في أداء مصاريف دراستهم مع علمهم بوجود زملاء لهم يدرسون على حسابهم؟ هل تعتقدون يا معالي الوزير أن ثقافة التأزر والتضامن، خصوصا في مجال يتطلب التنافسية قصد التفوق، قد يستساغ من طرف المواطن المغربي الميسور في زمن لا ثقافة إلا ل “أراسي، أراسي”؟
سادسا، لو أرادت وزارتكم مساعدة المواطن الفقير فجنبوه ما لا يطيق سماعه من زميله “الغني” على نحو “أنا من يمول المعهد ويمول دراستك به ولولا مساهمتي المالية لما كان لك وللمعهد وجود” وما قد ينجم عن مثل هذه الأقوال من تشنجات قد تصل إلى داخل المدرجات أو الفصول. لا تقل لي معالي الوزير أن الطالب المغربي في مجموعه يدرس مجانا لكون هذا القول مردود عليه. فالغني هو الذي يدرس مجانا بحكم مقر سكناه بالقرب من الجامعة أو المعهد ومنهم من يأتي به السائق في حال ابتعاد مقر سكناه عن الجامعة. علاوة على كون الغني لا يؤدي لا ثمن المسكن ولا المأكل ولا التنقل ولا مصاريف العلاج إلخ. أما الفقير فهو يؤدي ثمن كراء بيت للسكن مع أداء مصاريف التنقل والمأكل والملبس واقتناء الدواء عند المرض ومصاريف الكتب وغيرها من المصاريف التي يجهلها “الغني”.
سابعا، ما هو معقول ومنطقي معالي الوزير من زاوية الانسجام مع روح الدستور ومن زاوية الانسجام مع الجهوية الموسعة، يكمن في ضرورة ليس التفكير بل الشروع في جهوية ” مؤسسات ومعاهد مدينة العرفان “. كيف يعقل أن جميع المعاهد العليا متمركزة في الرباط والبيضاء؟ ومع تمركزها في هذا المحور تبق طاقات استيعابها محدودة وشبه مخصصة للقاطنين بهذه المدينتين إذ لا يمكن بتاتا لمواطن جرادة أو فكيك أو تلسينت أو الداخلة أو الرحامنة او تافيلالت (…) اللجوء إلى هذه المعاهد لكونه “فقير” ليست لديه إمكانيات مالية أو أنه لا يعلم حتى بتاريخ إجراء مباريات الولوج إلى المعاهد التي يرغب بولوجها أو أنه وبكل موضوعية يعلم أن الدراسة في هذه المعاهد هي” محجوزة لغيره’ أي لأولئك الطلبة القاطنين بالمدن التي تضم هذه المؤسسات والمعاهد إذ يكون بإمكانهم تتبع مسار ملفاتهم و”الفاهم، يفهم”.
ثامنا، لو أكدتم واشتغلتم معالي الوزير على ملف “جهوية مؤسسات ومعاهد مدينة العرفان” لكان أفضل مشروع تقدمه حكومة السيد ابن كيران ووزارتكم للأسر المغربية ولمسار التعليم العالي في المغرب لكونكم ستوفرون عليها الكثير من الأوزار ولكونكم ستبعثون روح الأمل في أنفس أولئك الذين لم يتمكنوا بسبب العجز المالي أو غياب المعلومة على التنقل نحو العاصمتين الادارية والاقتصادية ولكونكم ستكونون تعملون وفق صلب مقتضيات الدستور وتماشيا مع مستلزمات تنزيل الجهوية الموسعة.
تاسعا، وهذا منحى قد يساعد وزارتكم على “ضرب عصفورين بحجرة” أي على إيجاد مصادر تمويل التعليم العالي الجامعي موازاة مع “إطلاق سراح” الطاقات التي بسبب، ما لم أجد له تعريفا موضوعيا، أي “تقادم الشهادة أو الدبلوم” لم تتمكن من استكمال دراستها الجامعية. فهاته الشريحة المجتمعية بإمكانها الولوج إلى الجامعات والمعاهد المغربية مقابل أداء مصاريف الدراسة، وسيكون هذا التوجه هو التوجه الصحيح المعمول به في شتى الدول إذ ستستفيد آنذاك الجامعات والمعاهد المغربية من موارد مالية دون اللجوء إلى معيار “الغني والفقير”. بل أكثر من ذلك، فهذا المنحى ستشجعه شريحة مجتمعية عريضة التي أقصيت بسبب حدوثة “تقادم الشهادة” ويمكن اعتباره من التدابير المقبولة مجتمعيا والآنية التفعيل في انتظار تنزيل الجهوية الموسعة وفي انتظار توافر الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية لفتح ورش تدارس مسألة ليست فقط مجانية التعليم العالي في المغرب بل إعادة النظر في هيكلته والترسانة القانونية المؤطرة له. وثمة يقين أن هذا السبيل هو هين من ناحية تفعيله ولا شك أنه سيكون أهون من الجدلية التي قامت وستقوم حول مجانية التعليم العالي في المغرب. علاوة على أنه سيكتسي طابعا اجتماعيا وثقافيا وسيكون جوابا وقطيعة مع تساؤل يردده المواطن المغربي دوما: ما معنى تقادم الشهادة؟ هل العلم بات سلعة تنتهي صلاحيتها خلال فترة معينة ؟ إنها بالفعل حدوثة مسألة تقادم الشواهد والدبلومات هاته يا معالي الوزير.
عاشرا، كيف يعقل معالي الوزير أن يستجيب المواطن المغربي لمقترحكم في وقت تتعلق فيه هذه المبادرة بمجال لا زلتم تصفونه بوكر للفساد وبسوء في التدبير المالي والبشري ؟ كيف يعقل أن يساهم المواطن في مؤسسة تمنح شواهد لا تتناسب وحاجيات السوق (حسب ما “يروى”) ؟ هل بفضل المساهمة المالية “للغني” ستصبح هذه الشواهد بين عشية وضحاها مستجيبة لهذه الحاجيات ؟ كيف سيساهم المواطن المغربي في تمويل دراسته في جامعة أو في معهد يمنح شواهد أو دبلومات سرعان ما تنعت في وقت لاحق بالمتقادمة ؟
من الواضح أن مسألة تجاوز مجانية التعليم العالي قد تم طرحها بصيغة غير موضوعية وغير موفقة منهجيا وفي ظرفية سياسية واقتصادية واجتماعية غير ملائمة وبالتالي كان من المنتظر عدم استيعابها من طرف المواطن المغربي لتتخذ ردة فعله “ضجة سياسية” جعلت من مبادرة الوزير لحسن الداودي مبادرة تموه بين المد والجزر. هذا مع العلم أنه لا يجب إغفال أن مسألة تجاوز مجانية التعليم العالي لا تتعلق بإرادة وزير أو بإرادة حكومة بل هي مسألة تتعلق بمدى قابلية وإدراك وإشراك المجتمع المغربي بأكمله في صياغة سبل وظرفية تفعيلها والتوافق السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشأنها لكونها تشكل مسألة مجتمعية ولا مجال للمساومات والمزايدات العشوائية أو الفجائية الانتهازية، سياسيا، بخصوصها.