الحصيلة السنوية للأمن الوطني: إحصائيات مكافحة الجريمة بكل أنواعها والتهديدات الإرهابية
بقلم: عبدالحق الريكي، إطار بنكي
بعد مقالي السابق حول رجالات الريف… في زمن المقاومة، لنأتي لرجالات زماننا هذا، رجالات الريف في زمن المصالحة.
حين أتحدث عن زمن المصالحة، أقصد بطبيعة الحال المرحلة التاريخية الراهنة للعشرية الأولى للقرن الواحد والعشرون والتي تتميز بتولي عرش المغرب الملك الشاب محمد السادس، وكل التطورات السياسية التي عاشها المغاربة فيما سمي بالعهد الجديد مرورا بالربيع العربي والمغربي.
لكن قبل ذلك وحتى تكتمل الصورة ويَتَيَّسر ربط الحاضر بالماضي، لنتحدث عن رجالات الريف ما بين زمن المقاومة وزمن المصالحة. الجيل المضحى به.
بعد انهزام المقاومة الريفية ونفي العائلة الخطابية والعديد من العائلات القيادية الريفية الأخرى وسيطرة الإسبان على الأرض والبشر، انخرط المستعمر الإسباني في محاولات إخماد كل أشكال المقاومة واستمالة أهل الريف تارة وقمعهم في أغلب الأوقات حتى يتسنى له استغلال مواردهم الطبيعية واستغلال “رجالات الريف” في حروبه بالمغرب وبإسبانيا من خلال الحرب الأهلية حيث تم الزج بآلاف شباب الريف في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل والتي أدت إلى التضحية بجيل شبابي بأكمله مات بعيدا عن أرضه وأهله ودفن الآلاف منهم في مقابر جماعية بإسبانيا. كانت الخسارة فادحة على مستوى البنية القبائلية العائلية، الاجتماعية والاقتصادية تركت آثارا بليغة في التربة الريفية إلى يومنا هذا.
لقد قاوم بعض رجالات الريف سياسة الاستعمار الإسباني ورفض بعضهم المشاركة في حربه كما قام البعض الآخر بالالتحاق بالجبهة المناهضة لفرانكو. وهذا تاريخ آخر يجب النبش فيه إن توفر الأرشيف العسكري الإسباني للباحثين والمؤرخين.
حرب أخرى استمرت في هدوء وبدون ضجيج أدت إلى وفاة المئات والمئات من أهل الريف ليس في ميدان الحرب ولكن بمخلفات الحرب الكيماوية الغادرة، أول حرب غازات سامة عالمية.
يحكي الأجداد والآباء والأمهات هناك في الريف، عن أطفال، نساء، شباب ورجال يموتون بأمراض غريبة، سمي حينها، وإلى وقت قريب، قبل أن يعمم مصطلح “السرطان”، بمرض “أَرْهَجْ”، أي السم.
كما لم يستفيد أهل الريف من أية بنيات ولا مشاريع تنموية كما هو الشأن بالنسبة للمنطقة المحتلة من طرف فرنسا لاعتبارات تاريخية تتعلق بالبنيات الاقتصادية والاستعمارية للبلدين، فرنسا وإسبانيا، ليس هذا المقال مجال لتناولها بالتحليل.
في خضم كل هذه المعيقات حاول رجالات الريف خلال هذه الفترة القيام ب”واجبهم” في ظروف صعبة، جاهدوا وانخرطوا في معركة الاستقلال لدحر المستعمرين الإسباني والفرنسي، لكن للحقيقة نقول أن نظرهم وشعورهم كانا متوجهين نحو بلدة بعيدة عنهم حيث يوجد زعيمهم وقائدهم، محمد بن عبدالكريم الخطابي، بعاصمة مصر، القاهرة، حيث انخرط في معارك عديدة من تحرير فلسطين إلى تحرير المغرب العربي، وليس فحسب تحرير الريف والمغرب.
لقد تغير العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتغيرت موازين القوى، وانتفضت الشعوب وطالبت بحريتها وانعتاقها. بوطننا المغرب، انتهى زمن المقاومة المسلحة الشعبية القروية وظهرت مقاومة سياسية حزبية، مدينية، وطنية فذة، وخلايا مقاومة في المدن والقرى، أدى إلى نيل المغرب لاستقلاله، هذا الاستقلال الذي قيل عنه الكثير عن نواقصه وعن مرامي المستعمر الفرنسي والصراع الخفي والظاهر ما بين مختلف القوى الفاعلة من قصر، قوى محلية تستقوي بفرنسا، الحركة الوطنية وحركة المقاومة.
ما يهمنا من خلال هذا السرد الوجيز هو وضع أحداث الريف لسنة 1958 في إطارها العام. كان الوضع حينها ضبابيا، وكان كل طرف ينظم صفوفه ويعد العدة لمعارك قادمة لا محالة. لقد كان لموقف الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي من الأحداث الدائرة قبل وبعيد الاستقلال وكذا “تهميش” النخبة الريفية من العملية السياسية ومن مساهمتها في دواليب الدولة الجديدة، تأثير مباشر على اندلاع الأحداث المعروفة في الريف بأحداث “إِقَبَّارِنْ” أي “الخوذات العسكرية”.
المهم هنا التأكيد على نقطة تبدو لي محورية، هي كون هذه الأحداث كانت مفصلية تركت آثارها السلبية على الريف وأهله لأكثر من أربعين سنة، سنوات الرصاص والتهميش والإقصاء من جهة ولكن أيضا سنوات النضال والتضحية والجهر بالحق.
إني أعتقد جازما أن سياسة التهميش المتبعة من طرف الدولة المغربية الحديثة الاستقلال في الريف وفي مناطق أخرى، كانت بصماتها أكثر حدة بالريف من خلال “جريمة الهدر التعليمي” الذي قضى على طموح جيل كامل من شباب الريف الذين كانوا مطالبين بعد استقلال المغرب استكمال تعليمهم بالفرنسية، عوض اللغة التي دأبوا منذ صغرهم التعلم بها ألا وهي اللغة الإسبانية. نعم، كانت “جريمة” تعليمية وثقافية بكل المقاييس، ما زال ضحاياها يروون ويحكون عنها بألم إلى يومنا هذا.
لذلك، لم تتواجد بكثافة، نخبة متعلمة، مثقفة وإدارية ريفية على غرار نخبة كوليج مولاي يوسف بالرباط وكوليج مولاي إدريس بفاس وكوليج أزرو على سبيل المثال، حيث تم التضحية بجيل آخر وهو الجيل الثاني بعد جيل المقاومة وجيل الغازات السامة والحرب الأهلية الإسبانية.
كان من الضروري انتظار فترة أخرى إلى حدود نهاية السبعينيات ليظهر جيل المدرسة العمومية المكون من الجيل الذي رأى النور في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي والذي انخرط في أسلاك التعليم الوطني العمومي الشعبي بموادها الملقنة بالعربية والفرنسية.
إن الجيل المضحى به تعليميا، وهو جيل آبائنا، والذي بقيت في حلقه غصة حرمانه من التعليم واستكمال دراسته، قام رغم ذلك ب”واجبه” في دفع جيلي والأجيال اللاحقة في الانخراط بكل قوة، حسب الظروف والإمكانيات، في التعليم وتسلق أدراجه كوسيلة مثلى للتثقيف والتكوين والاندماج في ميدان العمل العمومي والمهن الحرة وما يتيحه من ترقي اجتماعي واقتصادي.
كل هذه العوامل مجتمعة كانت من نتائجها تهميش وإقصاء جهة الريف من كل مخطط تنموي يفيد الأرض والإنسان، مما أدى إلى احتقان اجتماعي وسياسي شكل الأرضية لانخراط الشباب الريفي في معارك ونضالات لا أول لها ولا آخر، حتى أصبحت المنطقة معروفة عند العام والخاص ب”شهامة” و”قتالية” و”كفاحية” ساكنتها، ويتجلى ذلك في انخراطهم ومساهمتهم في جل الانتفاضات المحلية والوطنية، من إضرابات تلاميذية لسنة 1972، مرورا بانتفاضة 1984 وتلقيبهم ب”الأوباش”، الحركة التلاميذية بإمزورن لسنة 1987، انتفاضات 1990 و1994، الانخراط في المعارك الطلابية والتواجد دائما في مقدمة صفوفها، في كل المواقع الطلابية وأساسا مواقع فاس ووجدة.
إلى يومنا هذا فإن أهل الريف وشبابه في قلب الإضرابات والانتفاضات سواء المحلية أو الوطنية كما هو الشأن بالنسبة لحركة ضحايا الزلزال بقرية تماسينت سنة 2005، وحركة المعطلين، حركة 20 فبراير، وأخيرا حركة بوكيدارن، إمزورن وأيت بوعياش لسنة 2012 وما تبعها من تدخل قوي لقوى الأمن في حق الساكنة ومحاكمات وأحكام قاسية أرجعت عقارب التاريخ إلى زمن، ظن الكثيرون، أنه مضى.
هل هذا المد النضالي الشبابي الشعبي صحي؟ هل هو مؤطر باستراتيجية واضحة وأهداف محددة؟ هل يدخل في إطار المعارك المحلية أم هو جزء من المعاركة الوطنية؟ لماذا انخراط الشباب الريفي بأعداد غفيرة في الحركات الراديكالية، اليسارية منها، الأمازيغية وحديثا الإسلامية السلفية؟ ولماذا “بعده” التاريخي عن الأحزاب الوطنية الأخرى والحركات الإسلامية المعتدلة؟ هل هناك بوادر لتغييرات سوسيولوجية في هذا الجانب؟ لماذا ينادي البعض بمطالب الجهوية والحكم الذاتي؟ هل الريفيون مطالبون بالوعي بمحدودية مجالهم وقلة مواردهم وغياب ميزان القوى لصالحهم والوعي بهدرهم لطاقاتهم في معارك لن يجنون منها شيئا؟ هل عليهم الاستمرار في هذا الطريق النضالي أم إحداث ديناميات سياسية جديدة وخلق لوبي تفاوضي قوي لتحقيق مراميهم؟ هل هناك برنامج نضالي مرحلي محدد وأفق مسطر؟ هل أهل الريف بكل فئاتهم يساندون أو يتفهمون طبيعة هذه النضالات؟
أعتقد أن هذه الأسئلة وغيرها والتي يمكن لملاحظ ما أن يسم بعضها بالمبالغ فيها، تتطلب من وجهة نظري ندوات ومناظرات وكتابات لصبر أعماقها، خاصة من جانب شباب وسكان الريف.
ما أريد التأكيد عليه في هذا المقام، حسب تحليلي المتواضع القابل للخطأ والصواب، أن جيل الإضرابات والانتفاضات أمام انسداد الآفاق وهيمنة المركز والاستمرار في سياسة الإقصاء والتهميش، لم يرضى بهذا ولم يقبله وانخرط في “واجبه” النضالي من أجل فضح هذه السياسات والصدح عاليا برفضه لها والتضحية بالغالي والنفيس مطالبا بحقه وحق أجداده وآبائه من “مغانم” التضحية والجهاد من أجل استقلال الوطن وحقه في الاستفادة من السياسات العمومية ورفع التهميش عن منطقته والمهم الأهم رفع الضرر، رد الاعتبار، المصالحة الحقيقية، الاعتراف بالجرائم، كل الجرائم، جرائم الاستعمارين الإسباني والفرنسي، ناهيك عن الدعم الألماني، وجرائم دولة الاستقلال لأنه لا يستسيغ أن يعيش إلا في كنف الحرية، الكرامة، الحق والعيش الكريم.
هذا هو جيل “رجالات” النضال الميداني هناك في قرى ومداشر ومدن الريف، “رجالات” لم ينخرطوا كلية في شعارات العهد الجديد، الإنصاف والمصالحة، العدالة الانتقالية، جبر الضرر والكشف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بل عملوا على فضح مقاصدها ومناهجها ونواقصها.
وحتى لا نكون منحازين لطرف ما، لا بد من التحدث عن فئة أخرى من “رجالات” الريف طفت على السطح بقوة خلال العشر السنين الأخيرة، أغلبهم أطر وكوادر تقطن خارج الريف، بمختلف مدن المغرب، خاصة الرباط، لكن لهم ارتباطات وامتدادات عائلية، مصلحية وحزبية بالريف.
هذه الفئة، منها من كان ينتمي لليسار الراديكلي، ومنها أطر في مختلف الوزارات والإدارت والمهن الحرة، عانت كمثيلتها من مناطق مغربية أخرى من التهميش وصعوبة تسلق المواقع الإدارية والحكومية، استطاعت مع العهد الجديد وخاصة بعد الزلزال العنيف الذي ضرب إقليم الحسيمة من تنظيم صفوفها والبروز بقوة عبر جمعيات تنموية ومهرجانات ثقافية وسياحية، كما انخرطت بقوة منذ بضع سنوات خلت في العملي الحزبي وفي مختلف مؤسسات الدولة، مع مشاركة وازنة في العملية الانتخابية البلدية في الريف وخارجه وكذا الانتخابات البرلمانية.
لقد قيل، أيضا، الكثير عن هذه الفئة من “رجالات” الريف، ليس من طرف من يعارضون مواقفهم وسياستهم من أهل بلدتهم بالريف، أكثر من ذلك أصبح البعض منهم محل نقاش عمومي وطني انخرطت فيه أهم القوى السياسية الوطنية والشخصيات الفاعلة والمؤثرة إعلاميا وجماهيريا.
من وجهة نظري المتواضعة، أقول أن هذه الفئة من الرجالات – رجالات المصالحة إن صح التعبير – بعد تجارب فردية وجماعية، وصلت إلى قناعة أن “واجبها” اليوم يحتم عليها اختصار الطرق، والتقرب من مراكز القرار والتواجد داخل الأحزاب النافدة والمؤسسات الدستورية المقرة للسياسات العمومية ومن هناك الدفاع عن مصالح الريف وساكنتها. هؤلاء “الرجال”، يقرون ضمنيا أن زمن ريف المقاومة انتهى إلى الأبد، وأن العالم والمغرب عرفا تغييرات عميقة، وأن العمل الميداني المحلي محدود النتائج، وأن الحل هو في تكتل الطاقات الريفية وانصهارها ضمن تكتلات أخرى للدفاع عن حق الهوامش و”المغرب الغير النافع” في كل مناحي ودواليب الدولة ومؤسساتها والعمل على إنهاء هيمنة عائلات بعينها ومناطق معروفة بسيطرتها على كل دواليب الإدارة والمال والإعلام منذ الاستقلال.
هذه الفئة انخرطت بقوة في سياسة المصالحة وجبر الضرر ومعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. هذا تخمين شخصي لفهم كنه فكر وتحليل هذا الجزء من “الرجالات” ذات التأثير على الريف، وذلك في غياب أي وثيقة صادرة عنهم تتحدث بالواضح عن قناعتهم الجديدة، تحليلهم للوضع وأهدافهم القريبة والبعيدة.
هناك من يختصر الطريق من معارضيهم بالقول أنهم من “صنع” مراكز القرار القريبة من القصر. كيفما كان الحال، فلن يشفعنا ذاك وذالك من محاولة فهم وتفسير هذا “اللاعب الجديد” في رقعة الريف والوطن.
لنعد شيئا ما لفترة بروز سياسة المصالحة مع الريف وذلك قصد فهم ما يجري اليوم واستكشاف التقاطبات الكبرى ل”رجالات” الريف في هذا الزمان، ما بين “رجالات النضال” الاحتجاجي الميداني بالريف و”رجالات العمل السياسي” المؤطر أساس انطلاقا من المركز، الرباط.
لقد كانت فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، فترة توتر وقطيعة مع الريف دامت لأكثر من أربعة عقود. ومع تبوء الملك محمد السادس مقاليد الحكم، تم تسطير استراتيجيات جديدة للعهد الجديد شعاراتها القرب من المواطنين والجهات، القطع مع ماضي الانتهاكات لحقوق الإنسان، الإنصاف والمصالحة وجبر الضرر… وكان من الطبيعي أن تحظى منطقة الريف “المشاكسة” و”المعارضة” لسياسات العاصمة من قدرها من هذه المقاربة.
إن الزلزال الذي ضرب إقليم الحسيمة سنة 2004 عجل بهذه المقاربة لكون هذا الزلزال الطبيعي المدمر عرى أمام أنظار المغاربة والعالم عن هشاشة البنيات التحتية للمنطقة وعن فقر ومعاناة ساكنتها خاصة القروية، وستبقى الصور التي بثتها القناة الثانية المغربية ومن بعدها كل قنوات العالم حين التقطت المواطنين وبعض رجال الوقاية المدنية يحاولون إنقاذ ضحايا الزلزال بأدوات بدائية، أحسن تعبير عن 50 سنة من العزلة.
كما كان لوقع التضامن المنقطع النظير مع ساكنة المنطقة، من طرف أهلهم في الناظور ومليلية والشمال وكل مناطق المغرب والأهل بالخارج وكل دول العالم وقع خاص في النفوس. إذ من جهة فعل الزلزال فيما يخص تقريب وتوحيد أهل الريف وأهل مختلف مناطق المغرب ما لم تفعله السياسة والخطابات لعقود. ومن جهة أخرى أظهرت هشاشة الواقع المعيشي للريف “حجية” تدمر آهاليها و”عصيانهم” المستمر وبُعْدَ التصورات الخاطئة حول استفادة المنطقة من التهريب والحشيش.
كانت بدايات التصالح في هذه الظروف المؤلمة والقاسية. وكان الأمل كبيرا. لكن سرعان ما ظهرت بوادر شرخ ما بين سياسات الإدارة المركزية وساكنة المناطق المنكوبة كما هو الحال بالنسبة للانتفاضة الطويلة لساكنة مداشر “تماسينت” بالريف.
لكن الحد الفاصل ما بين زمن المصالحة وزمن رفض هذه المقاربة كان مع زلزال آخر، لم يكن محلي هذه المرة، بل عم كل أرجاء الوطن العربي، وكل مدن المغرب، ألا وهو الربيع العربي بثوراته وانتفاضاته ومسيراته المطالبة بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم ونبذ الاستبداد والمفسدين.
لقد كانت مسيرة 20 فبراير 2011 بمدينة الحسيمة من أقوى المسيرات التي حج إليها الآلاف من أهل الريف من مختلف القرى والمداشر قاطعين عشرات الكيلومترات على الأقدام. ولم تخلى هذه المسيرات من مواجهات مع قوى الأمن وسقوط خمسة ضحايا من الشباب وجدوا محروقين داخل مؤسسة بنكية نشب فيها الحريق كما الشأن في إدارات أخرى.
اليوم، يوجد المغرب وبطبيعة الحال منطقة الريف في منعطف جديد، في خضم موجات المد والجزر، ما بين طموحات التغيير وتعميق الممارسة الديمقراطية بالاحتكام لصناديق الاقتراع، والشروع في تنفيذ سياسات شعبية لصالح الفئات المستضعفة ومحاربة الفساد والمفسدين، وما بين محاولات القوى المناهضة للتغيير للتأقلم مع الوضع الجديد والانصهار في الشعارات الجديدة التي يحملها الشباب والشارع وتفريغها من محتواها أو تحويلها لصالحها. هذا الوضع يسري على المغرب كوطن وعلى أهل الريف. الكل يترقب، الكل يستعد، الكل ينظم صفوفه. ما بين المواقف المبالغة في التشاؤم إلى ما ستؤول إليه الأوضاع وما بين التفاؤل الحذر.
اليوم يبقى السؤال، إلى أين يتجه الريف وماذا عن المصالحة. هل هي سياسة ناجحة يجب الاستمرار في تفعيلها؟ هل يجب الوقوف لحظة، والنظر في إيجابياتها وسلبياتها لتقويمها؟ هل، بالعكس، انتهت واستنفذت أوراقها؟ أين الريف من شعارات جبر الضرر الجماعي؟ أسئلة ستجيب عنها الأيام والشهور القادمة.
أما فيما يخص وجهة نظري الشخصية المتواضعة واقتراحاتي حول الموضوع فأوجزها في ما يلي:
أولا، يجب الوعي بأن الأزمنة تختلف، وكذا سياقاتها ودور رجالاتها أيضا. فإذا كان زمن “رجالات” المقاومة الريفية سجلت ملحمة تاريخية ناذرة فذلك ناتج عن ظروفها ومحيطها وتوفر ظروف تحقيق شروط نجاحها من قيادة موحدة مركزية وعدو واضح وأهداف متفق عليها ودعاية وتعبئة وتنظيم محكم، لم يكن ينقصه سوى الرجال والنساء الأشداء، الأحرار، المؤمنين بعدالة قضيتهم. ذلك هو زمن الحروب والثورات والدفاع عن الدين والنفس والأرض والحرية.
اليوم، بالفعل، الوضع مختلف تماما. الصراع انتقل إلى مستويات أخرى. نحن ننعم بوطن استعاد استقلاله وحريته. نحن نعيش ونتصارع في إطار نظام حكم ملكي حوله إجماع الأمة وقواه الحية.
لكن، أيضا، نحن نعيش في وطن يعمه تفاوت صارخ ما بين الفئات الغنية والفقيرة والمناطق المحظوظة وتلك المهمشة أي كل مناطق الهوامش البعيدة عن مركز الرباط – الدارالبيضاء ومن ضمنها جهة الريف.
إن معالجة هذه الاختلالات يتطلب سياسات حازمة لفائدة الفئات المستضعفة ومقاربات جهوية جديدة ورجالات لهم الكفاءة والقدرة على الضغط والتأثير في مربع التفاوض النهائي للحسم في الاختيارات لصالح هذا الاتجاه أو ذاك.
هل “رجالات النضال الميداني” قادرون على التأثير على السياسات العمومية انطلاقا من تحركاتهم واحتجاجاتهم أم صداهم لا يتعدى حدود منطقتهم؟ أم هذا الدور موكول ل”رجالات المصالحة” عبر تواجدهم داخل المؤسسات التشريعية وبعضهم في الأجهزة الحكومية والآخر في المعارضة.
هل الحل في قدرة “رجالات النضال الميداني” في تحقيق قفزة نوعية لتأطير معاركهم لتجد لها صدى في الهيئات الحزبية والمؤسسات الدستورية الوازنة؟
أم أن تأثير هؤلاء وأولئك محدود وغير مقنع؟ هل الحل في إيجاد صيغة توافقية تمكن من إيجاد جسور ما بين “رجالات النضال الميداني” و”رجالات المصالحة” تمكن للأولين من إيجاد صدى لمعاركهم بأهم مراكز القرار الحزبي، النقابي، البرلماني والحكومي وللآخرين ذكاء استغلال التحركات الشعبية وتوجيهها نحو تحقيق سياسات تنموية تعود بالنفع على أهل الريف؟
حين أتحدث عن الأهداف، أقصد “النبل” في العمل السياسي الذي يتوخى تحقيق برامج و”يوتوبيات” على أرض الواقع يعود بالنفع على فئات واسعة من الساكنة بعيدًا عن الطموحات الشخصية الذاتية الأنانية أو الحزبية الضيقة أو استعمال السياسة للاغتناء والتسلق وتحقيق مآرب ومنافع شخصية.
لكن قبل هذا وذاك، يبقى السؤال الجوهري مطروحا حول البرنامج الواجب الاتفاق حوله وأولوية الأهداف والمطالب ذات الصبغة التاريخية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية، من قضية نقل رفات المجاهد عبدالكريم الخطابي، المصالحة التاريخية، التقطيع الجهوي والحكم الذاتي، جبر الضرر الجماعي، المصالحة السياسية مع الأحزاب الوطنية، المشروع التنموي الاقتصادي الجهوي، دور الجالية بالخارج… وهو ما سيكون إن شاء الله، موضوع مقال لاحق، نظرا لأهميته وتأثيره القريب والبعيد على مختلف المقاربات السياسية والتنموية لأهل الريف.
الرباط، 25 يونيو 2012